الوقت- كعادته خرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ليُعبِّر عما كان دائماً يسعى له، وهو التوسع عبر تعزيز النفوذ العسكري والسياسي لتركيا ولكن من خلال العودة لما قبل حدود تركيا عام 1923، والتي خطتها معاهدة لوزان الثانية. لكنه وللأسف، قرَّر هذه المرة، أن يُنغِّص إنجازات العراقيين المُشرِّفة عبر وضعه خطوات القوات العراقية في خانة الخطر على الأمن القومي التركي. وهو ما عبَّر عنه بوصفه لسلوك الحشد الشعبي بالإرهاب وهو الطرف المُكلَّف رسمياً من قبل الدولة بتحرير منطقة تلعفر العراقية. في حين شرَّفت إنجازات الحشد الشعبي والقوات العراقية كل العالم وتحديداً أردوغان والذي يبدو أنه سينزلق من جديد في مُستنقعٍ من السياسات المبنية على الأوهام، والتي استغل فيها حاجة واشنطن ليدٍ لها في العراق، بعد أن فشلت في فرض خياراتها على الشعب العراقي. في وقتٍ لا يغيب فيه المشهد السوري عن المشهد العراقي خصوصاً شمالاً. فماذا في تصريحات أردوغان والردود العراقية عليها؟ ولماذا يُخطئ أردوغان في حساباته مرة أخرى؟
تصريحات أردوغان: جموحٌ توسعي يدفعه لقرع طبول الحرب
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن نيته احتلال مناطق واسعة تمتد من الموصل إلى شمال حلب، مشيراً الى أن قواته سوف تنطلق إلى مدينة الباب السورية والتي تبعد نحو 30 كيلومتراً شمال حلب وبعدها إلى كل من مدينتي منبج والرقة. مشيراً الى أن "تركيا تعتزم الدخول إلى الموصل وتلّعفر وكركوك وسنجار وطوزخرماتو" بحسب تعبيره، متجاهلاً كل التحذيرات التي صدرت من الجانب العراقي الرسمي حول التوغل في الأراضي العراقية. مؤكداً بحسب ما نقلت وكالة الأناضول، أنه يعتبر مدينة تلعفر التركمانية شمالي العراق قضية حساسة بالنسبة لتركيا، مُعتبراً سلوك الحشد الشعبي بأنه إرهابي متوعداً إياه بما وصفه بـ "رد مختلف".
ردود الفعل العراقية: رفضٌ للإحتلال التركي الواضح
في هذا الصدد أشار المتحدث باسم هيئة الحشد الشعبي، كريم النوري لمصادر إعلامية الى أن القوات التركية في العراق تُعتبر قوات احتلال وليس من حق تركيا أن تطالب العراقيين بعدم مواجهة تنظيم داعش مؤكداً أنه لا يوجد نية لأي مواجهة مع تركيا في الموصل في حين قد يدفع أردوغان الثمن على الصعيد الداخلي التركي في حال قرَّر القيام بأي مغامرة في العراق. من جهته أدان المتحدث باسم الحشد التركماني السيد علي الحسيني، في حواره مع وكالة تسنيم التدخلات التركية في الشأن العراقي مؤكداً أن الأطماع التركية التي يُعبِّر عنها لن تستطيع أن تمزق الصف الوطني العراقي. مشيراً الى أن التركمان هم شعب واحد بسنَّتهم وشيعتهم، كما العرب سنة وشيعة. مذكراً أردوغان بحجم المعاناة السابقة التي عاناها التركمان من تنظيم داعش الإرهابي في العديد من المناطق وتحديداً آمرلي وطوزخرماتو والتي لم تلق حينها أي مساعدة من تركيا.
دلالات وتحليل: أردوغان يُقامر نحو المجهول
دلالات وتحليل
عدة دلالات يمكن تحليلها والوقوف عندها، وهنا نُشير للتالي:
أولاً: على صعيد السياسة الدولية
- من الواضح أن أردوغان ينقلب على تعهداته تجاه الطرفين الروسي والإيراني، وهو الأمر الذي يعتبره المعنيون مخاطرة لأردوغان ستُفقده الكثير في حال قرَّر العودة الى الأحضان الأمريكية التي رحَّبت بالخيار التركي لأسباب لا تزيد عن كونها مصالح. وهو الأمر الذي يجعل المراقبين يصلون لنتيجة واضحة واحدة وهي أن أردوغان لا يتعلَّم من دروس الماضي، لا سيما بعد إنعطافته تجاه روسيا. خصوصاً أنه ليس بحجم العبث السياسي أو العسكري مع كلٍ من روسيا وإيران.
- من جهةٍ أخرى فإن السلوك التركي الحالي يدل على ضعفٍ في فهم الواقع السياسي والعسكري للأطراف المتصارعة في المنطقة. ففي وقت يبدو جلياً أن إيران وروسيا ومعهم العراق وسوريا باتو قاب قوسين من تحقيق نجاحٍ في الحرب على الإرهاب، يخرج أردوغان ليضع لنفسه هدفاً واحداً لا يخدم أياً من شعوب المنطقة وتحديداً الشعب التركي، ويسلك خياراً قد لا يجد من يوافق عليه سوى واشنطن لأسباب تتعلق بمصالحها. في حين يبدو واضحاً أن أردوغان لم يتعلم أيضاً من دروس وعِبر البراغماتية الأمريكية المعهودة.
- لا شك أن أردوغان ومن خلال إعادته الحديث حول معاهدة لوزان والتي وقَّعتها تركيا عام 1923 وتخلت فيها عن حدود الدولة العثمانية، يُثبت بأن هدفه الوحيد هو إعادة صياغة الحلم العثماني من خلال إيجاد إشكاليات حدودية مع الأطراف الدولية المعنية وهو ما بدأه الآن مع العراق، وقد يستمر فيه تجاه دول أخرى كمصر وليبيا على سبيل المثال.
- يجب على أردوغان أن يأخذ بعين الإعتبار أثر سياساته على العلاقة بين الشعبين الجارين التركي والعراقي. خصوصاً أن المشكلة بدأها أردوغان وهو ما لا يحظى بأي تأييدٍ شعبي تركي. في حين يتساءل المعنيون عن نتائج هذا السلوك، لا سيما بعد أن بات واضحاً حجم تعنُّت الرئيس التركي، دون أخذه بعين الإعتبار مصالح الشعب العراقي الخاصة ومساعيه المُشرفة لتحقيق إنجازات فيما يخص مكافحة الإرهاب والنهوض الداخلي.
ثانياً: أسباب السلوك التركي
- إن هزائم تنظيم داعش الإرهابي وقرب تحرير الموصل على أيدي القوات العراقية الموحدة، ساهم في طرح ملف التعاطي مع واقع ما بعد تنظيم داعش في العراق كما سوريا. وهو ما يبدو أنه يدخل ضمن حسابات الرئيس التركي. فيما يجد أردوغان بأن وضع اليد عليها يُعد أولوية، خصوصاً عندما ترحب واشنطن والتي لم تستطع فعل ذلك بشكل مباشر. في حين يجب أن يُدرك أردوغان وكل من يقف خلفه أن الأراضي العراقية أو السورية ليست "مشاع" بل هي تعود لأهلها من أبناء الشعبين العراقي والسوري.
- يحاول أردوغان اليوم إستغلال المساعي الأمريكية لضرب الإنجازات الروسية الإيرانية فيما يخص الإطاحة بمشروع الشرق الأوسط الجديد الأمريكی. وهو ما يجعله يتناغم مع بعض مصالح أمريكا مُقدماً أوراق اعتماده، خصوصاً فيما يتعلق بمدينة الباب السورية وتلعفر العراقية. لا سيما أن أردوغان يتمتع بحس التهور الذي يجعله أهلاً للمشاريع الأمريكية الآنية والظرفية، وهو الأمر الذي ستستغله أمريكا حتماً بعد أن رحَّبت على لسان رئيسها أوباما والذي لن تضره النتائج كونه يستعد للرحيل.
- إن فشل المساعي التركية القديمة في تعزيز التواجد العسكري التركي في العراق، هو من الأمور الذي تدفع أردوغان لإعادة محاولة تحقيق الهدف ولكن عبر طرحه مبررات آخرى تتعلق بالدفاع عن التركمان بحسب تعبيره. فالقوات التركية التي دخلت مدينة بعشيقة العراقية تحت حجة تدريب متطوعين من العشائر العربية تتألف من 1600 جندي وضابط تركي، وعدة كتائب، وهي لا تصل الى مستوى القدرة على فرض السيطرة على شمال العراق، أو التدخل في الموصل، خصوصاً بعد أن طوقتها القوات العراقية، مما دفع أردوغان لإيجاد فرصة له في تلعفر، والتي لا يعرف أحد حتى الآن كيف يمكن أن تتطور الأمور فيها، في حال قرَّر أردوغان تنفيذ جموحه نحو المجهول.
ثالثاً: ما يجب أن يُقال
- إن السلوك التركي الحالي، لا يرقى لمستوى المسؤولية الدولية. بل هو سينعكس بالضرر على المصالح التركية أولاً. خصوصاً أن رجب طيب أردوغان لم يُفلح يوماً في أي سياسة خارجية. وهو الشخص الذي عاش منذ فترة محاولة إنقلابٍ فاشلة ضده، ووجد كافة الدول وتحديداً روسيا وإيران وسوريا والعراق الى جانبه فيما خذله الطرف الأمريكي. لنقول أن أردوغان يُثبت من جديد فشله في التعاطي الدولي، وجهله بالواقع السياسي، فيما يندفع خلف جشعه وطمعه بإعادة الهيمنة العثمانية والتي ستقضي عليه قبل غيره خصوصاً أن مفاعيل السياسة الخارجية لأي دولة باتت تعود بأثرها على الداخل أيضاً.
- إن قيام أردوغان بأي حماقة عسكرية، هو بمثابة مغامرة لا تمتلك أي مُسوِّغ مُقنع. الى جانب كونها تتعارض مع القوانين الدولية واحترام سيادة الدول لا سيما العراق وسوريا. فيما يجب على أردوغان أن يُدرك بأن العبث مع المصالح الدولية لبعض الأطراف لا سيما روسيا وإيران لن يُجد نفعاً مع الطرف الأمريكي الذي سيبيعه غداً رخيصاً في بازار المصالح الدولية.
- إن ما يقوم به الشعب العراقي عبر قواته الشجاعة، لا سيما الحشد الشعبي، هو أشرف ما يمكن أن يقوم به أحد تجاه وطنه. في حين يُعتبر سلوك أردوغان تجاه العراق وسوريا، أسوأ ما يمكن أن يتصرفه رئيس يدعي فهم السياسة الدولية أو الحرص على العلاقة مع الدول لا سيما الجارة. لنقول أن سلوك الشعبين العراقي والسوري تجاه الإرهاب وقيامهم بالدفاع عن حدودهم، هو أمر مُبرر. بينما يُعتبر سلوك أردوغان في حال تمت ترجمته، إعتداءاً واضحاً على سيادة هذه الدول وهي من تقرر كيفية ردة الفعل.
بإيجاز، يقرع أردوغان طبول حربٍ لا يوافقه عليها سوى الأمريكي الحالم منطقةٍ مشتعلة. لكن من يظن أن حريق أو لهب المنطقة سيُعزِّز المصالح التركية أو الأمريكية، أو سيُنجي بعض الأنظمة العربية الخليجية الغارقة في الفشل، فهو واهم. بل إن من يصنع الإنجازات في العراق وسوريا واليمن وفلسطين، يستطيع التغلُّب على أي تحدٍ مُقبل. في حين ليس بمقدور الحالم بوهم الخلافة العثمانية، أن يكون أقوى من السياسة الأمريكية التي خسرت الرهان نحو الفشل الحتمي. لنقول أن أردوغان الذي يقرع طبول الحرب عبر تصريحاتٍ نارية، سيكون في حال ترجم ذلك، أول من سيحترق بنتائجها.