يقف العالم أمام مشهدٍ دوليٍ بعيدٍ عن الحلول الواضحة. مشهدٌ قد ينفجر في أي وقت، لا سيما بين الأطراف الدولية أي روسيا وأمريكا، وهو الأمر الذي تراقبه الدول الأخرى بحذر. فيما باتت الأزمة السورية إحدى تلك الأزمات التي تُعتبر ساحة نزالٍ يبدو أنه سيحتدم أكثر. وبين النفاق الأمريكي والإصرار الروسي تترنَّح الأزمة السورية. حيث من الخطأ مقاربة الخلافات الأمريكية الروسية، من زاوية أنها خلافات تخص إتفاقية أو معاهدة. بل إن قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخير حول إلغاء إتفاقية البلوتونيوم مع أمريكا، جاء لأسباب تتخطى النقض الأمريكي للإتفاق. فيما كان الرد الأمريكي واضحاً، ليؤكد أن المسألة تتعلق بالكثير من الملفات. فماذا في القرار الروسي؟ وما هي مضامين الإتفاقية؟ وكيف يمكن قراءة الخلافات الأمريكية الروسية وخروجها عن حدود الحرب الباردة؟
الرئيس بوتين يصدر مرسوم إبطال القرار
أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ أيام قراراً قضى بتعليق الإتفاق مع الأمريكي الروسي، حول معالجة البلوتونيوم. محملاً أمريكا مسؤولية نكث عهودها، عبر خطوات غير ودية، وعدم تنفيذها للإتفاق. مما أسفر عن تعليق سريان مفعول الإتفاقية الروسية الأمريكية حول معالجة البلوتونيوم المذكور والتعاون في هذا المجال، بحسب بيان موسكو. فيما أوعز الى وزارة الخارجية إرسال مذكرة بهذا الشأن للجانب الأمريكي.
الإتفاق: منذ الإقرار حتى إيقاف روسيا العمل به
تم توقيع هذه الاتفاقية الروسية الأمريكية حول معالجة البلوتونيوم، بين موسكو وواشنطن في 29 آب عام 2000. حيث قضت بتصفية فائض البلوتونيوم العسكري في روسيا وأمريكا خاصة من خلال معالجته وصنع وقود الأوكسيد المختلط واستخدامه في مفاعل نووية للطاقة وتحويله إلى مادة غير قابلة لصنع أسلحة وكذلك دفنه. وكان من المقرر أن يُباشر كلا الجانبين إزالة احتياطيات البلوتونيوم المكتشفة بحجم 34 طناً عام 2009، لكن العملية تعثَّرت بسبب خلافات بين الطرفين، حول مصادر وحجم التمويل. مما دفع موسكو وواشنطن، لتوقيع وثيقة عام 2010، تنص على بدء عملية المعالجة في عام 2018. لكن يبدو أن المسألة عادت وتعثَّرت بعد أن اتهم الرئيس الروسي أمريكا في آذار الماضي، بعدم تنفيذ التزاماتها الخاصة بتصفية البلوتونيوم العسكري، وذلك بعد أن قامت واشنطن بإعلانها عن تغيير تكنولوجيا معالجة البلوتونيوم من جانب واحد بشكل يسمح لها بالحفاظ على إمكانية إعادة معالجة المادة وتحويل البلوتونيوم إلى بلوتونيوم عسكري من جديد. وهو ما أثار غضب موسكو، وقاد الى قرار الرئيس الروسي الحالي.
خيبة أمل أمريكية بسبب القرار الروسي
من جهتها أعلنت واشنطن عبر المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض "جوش إرنست" يوم الإثنين المنصرم، أن أمريكا تشعر بخيبة أمل بسبب القرار الروسي بالإنسحاب من اتفاق ثنائي بشأن التخلص من البلوتونيوم. معتبراً أن هذا القرار يصب في إطار القرارات الأخرى التي ستؤدي إلى العزلة الدولية لروسيا، مشيراً إلى أن مثل هذه القرارات تتضمن السياسات الروسية في أوكرانيا وفي سوريا. فيما اعتبرت الناطقة باسم الخارجية الأمريكية "إليزابيث ترودو" أنه لا علاقة بين وقف العمل باتفاقية البلوتونيوم ووقف التعاون بين موسكو وواشنطن فيما يخص الشأن السوري.
روسيا: شروط العودة تتخطى الإتفاق
يبدو واضحاً من خلال قراءة شروط العودة الروسية، أن موسكو تستخدم ورقة الإتفاق لأسبابٍ تتخطى نقض أمريكا للإتفاق بعينه وهو ما سنوضحه بالتالي:
- عبَّرت روسيا بوضوح من خلال وثيقة إلغاء الإتفاق عن أن الموضوع يتخطى الإتفاقية، حيث أشترطت روسيا على أمريكا عدة شروط للعودة الى الإتفاق. فيما أظهرت موسكو توجُّسها من الخطر الأمريكي على إستقرارها الإستراتيجي. معتبرةً أنها قد تستأنف الإتفاقية والبروتوكولات الملحقة بها فقط، بعد أن تزيل واشنطن الأسباب التي أدت إلى تغيير الظروف التي كانت سائدة في يوم بدء سريان الإتفاقية وملاحقتها بشكل جذري. فمن خلال تحليل الكلام الروسي، يبدو واضحاً أن المسألة تتخطى الإتفاق.
- فيما يخص الشروط، إشترطت موسكو لإعادة استئناف الإتفاقية مع أمريكا، قيام واشنطن بتقليص منشآت وتعداد القوات الأمريكية في دول الناتو التي انضمت الى الحلف بعد 1 أيلول من العام 2000، لتصبح عند المستوى الذي كانت عليه يوم بدء سريان مفعول الإتفاقية والبروتوكولات الملحقة بها. وهو ما يعني إزالة جزءٍ من ورقة القوة التي تعتمدها أمريكا ضد روسيا بالتعاون مع حلفائها الأوروبيين. وهو ما أثبتته مسألة طلب روسيا قيام واشنطن بإلغاء ما يسمى "قانون ماغنيتسكي" والذي صدر عام 2012، الى جانب إلغاء قانون دعم حرية أوكرانيا عام 2014، وكل القوانيين التي استهدفت المؤسسات الروسية.
- الشرط الثاني وهو الشرط الذي يمكن أن يكون نتيجة لليقين الروسي بحجم النفاق الأمريكي لا سيما فيما يخص الأزمة السورية والأوكرانية. وهو ما عبَّرت عنه موسكو بضرورة تخلي أمريكا عن السياسة غير الودية تجاه روسيا.
- الشرط الثالث والذي يمكن اعتباره الوحيد المُتعلق بالإتفاقية، يطرح ضرورة قيام واشنطن بتقديم خطة واضحة ودقيقة حول آلية تخلصها من البلوتونيوم.
تحليل ودلالات: نقل الحرب خارج الميدان السوري
يمكن الخروج بعددٍ من التحليلات فيما يخص الخلافات وهي على الشكل التالي:
أولاً: إن الموقف الأمريكي المربك والغامض تجاه سوريا، وتصعيد اللهجة الأمريكية في مجلس الأمن تجاه الطرف الروسي بطريقة خرجت عن اللياقة الدبلوماسية، لدرجة وصف السلوك الروسي في محيط حلب بالبربري، أدى الى كشف النفاق الأمريكي بشكلٍ كامل فيما يخص الأزمة السورية. وهو ما قاد الى قيام روسيا بالرد من خلال ملفٍ يُعتبر حساساً بالنسبة لأمريكا وحلفائها، عبر الإعلان عن وقف العمل بالإتفاق حول البلوتونيوم.
ثانياً: تأكيداً لإرتباط المسألة بالملف السوري، تَبِع الإعلان الروسي عن وقف تنفيذ الإتفاقية الأمريكية الروسية، إعلان موسكو عن تزويد قاعدتها في سوريا بمنظومة "أس 300"، ودعم أسطولها في البحر المتوسط مع ما ترافق من تصريحات خرجت من الكرملين، تتحدث عن أن موسكو لن تتخلى عن مكافحتها للأرهاب ودعم الدولة السورية وجيشها. وهو ما يعني أن القرار الروسي جاء ضمن خطة في التصعيد ضد واشنطن.
ثالثاً: يمكن ومن خلال الخلاف الأمريكي الروسي الحالي، إبراز حجم النفاق الأمريكي في التعاطي مع العهود والإتفاقيات لا سيما النووية. هو ما يجري اليوم مع موسكو بعد أن حصل ويحصل مع إيران. فيما بدا واضحاً أن روسيا تسعى للحفاظ على القانون الدولي ومواثيقه ومنع محاولات ترسيخ سياسة العقوبات من خارج المنظومة القانونية الدولية. بينما تتعامل أمريكا كعادتها، عبر ازدواجية معايير سياسية وقانونية وتقوم بدعم التنظيمات الإرهابية لإستنزاف الشعوب والدول والأنظمة.
رابعاً: من الواضح أن المواجهة بين الطرفين ستتصاعد على كافة المستويات والأصعدة. خصوصاً بعد أن خرجت أمريكا من الإتفاق مع روسيا تجاه سوريا بشكل لا يمكن أن تتقبَّله موسكو. كما يبدو واضحاً أن حجم التلاقي الروسي مع دول المنطقة لا سيما إيران، بات أكبر، فيما يخص مصالح الشعوب. في حين ينتظر الكثيرون تطورات الأحداث، والتي يبدو أنها ستكون ساخنة هذه المرة، مع ضعف إمكانية قيام واشنطن بالتصعيد ولو مرحلياً، نتيجة انشغالها بالملف الإنتخابي الداخلي.
تقف المنطقة والعالم على فوهة بركانٍ لا يعرف أحدٌ متى سينفجر! الدول الكبرى تُعيد خلط أوراقها. والشعوب تعيش حالةً من القلق والفوضى. فقد خرجت المواجهة بين أمريكا وروسيا من حدود إمكانية العودة للإتفاقات، إلا في حال أيقنت الأطراف ضرورة ذلك. وبين الضربة الروسية لأمريكا في زمنٍ دقيقٍ تعيشه واشنطن، وتطورات الأحداث في سوريا والمنطقة، يمكن القول وبوضوح أن التصعيد بين روسيا وأمريكا، ينقل الأمور الى مواجهة مُحتدمة، لا يبدو أن معادلاتها ستكون ضمن سياق الحرب الباردة!