الوقت - شكل موقف الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، مفاجأة سياسية لا تختلف عن مفاجأة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير منذ أشهر. حيث اعترف بأن أغلب الأوروبيين هم أمريكيون في السياسة. معتبراً أنه آن الأوان للنظر الى المصالح الأوروبية الخاصة، مما يُثبت حجم التبعية العمياء للسياسة الأمريكية من قبل الدول الأوروبية. فيما يمكن ملاحظة أن الحرب على العراق كانت القاسم المشترك الذي أقنع الدول الأوروبية بأنها كانت ضحية السياسة الأمريكية. إلا أن ذلك وبحسب الوقائع السياسية، لم يدفعها أو يجعلها قادرة على تشكيل رؤية خاصة بالمصالح الأوروبية. فماذا في موقف الرئيس الفرنسي؟ ولماذا بقي الدور السياسي الأوروبي تحت السقف الأمريكي؟ وكيف باءت محاولات أوروبا للخروج من الطوق الأمريكي بالفشل؟ وما هي دلالات موقف الرئيس الفرنسي الأخير؟
موقف هولاند وانتقاده أمريكا
حيا الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أرواح ضحايا اعتداءات 11 أيلول في الذكرى السنوية للأحداث. فيما نقلت وكالة "فرانس 24" انتقاده للسياسة الأمريكية عبر انتقاده الرد الأمريكي على هذه الهجمات الإرهابية خاصة عبر التدخل في العراق. وأوضح أنه بالرغم من أن فرنسا رفضت المشاركة في هذا التدخل لكنها كانت ضحية تداعيات الفوضى التي نجمت عن ذلك. مُعتبراً أن الرد الأمريكي آنذاك ساهم في زيادة التهديد الإرهابي. واصفاً أنه في ذلك الحين "كُنا جميعاً أمريكيين" بحسب تعبيره، قاصداً الأطراف الأوروبية. ثم تساءل عن سبب عدم إدراك فرنسا والغرب منذ البداية، أنهم كانوا معنيين بشكل مباشر بمواجهة الإرهاب بحسب مصالحهم. معتبراً أن السياسة الأمريكية في الرد على الإرهاب حينها، أدت الى توسيع التهديد بدل القضاء عليه خصوصاً في العراق. مؤكداً أن فرنسا جاك شيراك، كانت ضد مشروع المشاركة في التدخل في العراق بل أنها نددت بذلك. لكن هذا لم يُجنبها من أن تكون ضحية تداعيات الفوضى التي نجمت عن التدخل الأمريكي في العراق.
الدور الأوروبي وبقاؤه تحت السقف الأمريكي
منذ تشكيل الإتحاد الأوروبي عام 1992 حاولت المفوضية الأوروبية تشكيل بنية أولية لمؤسسة أوروبية جامعة تُحدد مصالح الأمن والسياسة الخارجية للدول الأوروبية، لكنها لم تستطع القيام بذلك، وهو ما يعود لسببين أساسيين:
- التفاوت في المصالح الأوروبية فيما بينها، ومحاولة كل دولة إيلاء مصلحتها على حساب الأخرى.
- علاقة كل دولة بأمريكا ومدى تأثير واشنطن عليها مما جعل أغلب الدول تدين بالولاء لواشنطن، وهو ما اتصفت به كل من بريطانيا وفرنسا بالتحديد.
وهو الأمر الذي جعل هذه الدول تغرق في السياسة الأمريكية دون التوصل إلى سياسة أوروبية خارجية موحدة ومفصلة. فانطلقت للتوفيق بين مصالحها ومصالح الدول الأخرى، على الرغم من تباينها وتناقضها لا سيما فيما يخص مسألة دول الشرق الأوسط وكيفية التعاطي معها. بينما سعت أمريكا الى استغلال النفوذ الغربي الموجود في المنطقة جراء الإحتلال البريطاني والفرنسي السابق، فيما يخدم مصلحتها.
التحفُّظ الأمريكي وحظر الدور السياسي الأوروبي
شكلت العلاقات الأوروبية الأمريكية واستمراريتها أساساً في تحديد السقف الذي يمكن أن يلجأ له الإتحاد الأوروبي في رسم سياساته المستقلة عن السياسة الأمريكية تجاه المنطقة. حيث يبدو ذلك واضحاً من خلال تعاطي أوروبا مع ملف الصراع العربي الإسرائيلي. فقد تماشت الدول الأوروبية الأساسية مع سياسات واشنطن لا سيما في تصنيف الإرهاب، والمنظمات الإرهابية. كما تعلن الدول الأوروبية دوماً أن دورها في التعاطي مع السياسة الشرق أوسطية هو مُكمِّل للدور الأمريكي! في حين يبدو واضحاً وجود رفضٍ أمريكي لإعطاء الدول الأوروبية دوراً مركزياً فيما يخص قضايا الشرق الأوسط، بسبب الرفض الإسرائيلي لذلك. وهو ما يجعل الدور الأوروبي السياسي بالنسبة للمنطقة مرهون بالسقف الذي تضعه أمريكا.
محاولات عديدة لايجاد إنعطافة أوروبية باءت بالفشل
يُشير الخبراء الى أن السياسة الخارجية الأوروبية شهدت محاولات عديدة للخروج من السياسة الأمريكية. فقد خرج إعلان برشلونة عام 1995 ليتحدث عن تعزيز العلاقات الأوروبية الشرق أوسطية عبر ما عرف بحوار "اليورو- المتوسطي". وهو ما وضع المصالح الإقتصادية للطرفين ضمن قائمة التعاون المشترك. في حين كانت جهود بعض الدول الأوروبية على الصعيد الفردي، في إنشاء تعاون عسكري مع عدد من الدول العربية، أمراً بقي تحت العناية والترقب الأمريكي الإسرائيلي.
من جهةٍ أخرى حاولت الدول الأوروبية الخروج من السياسة الأمريكية فيما يخص تعاطيها مع الإرهاب. حيث قامت جهات أوروبية بفتح علاقات مع أحزاب إسلامية (كحزب الله..)، وهو ما يعتقد البعض أنه تزامن مع محاولة إعتماد أمريكا للطرف الأوروبي كوسيلة لإيصال الرسائل السياسية الى هذه الأحزاب الرافضة للعلاقة مع أمريكا. في حين رأى آخرون أن ذلك كان محاولة أوروبية للخروج من الطوق الأمريكي. خصوصاً أن الدول الأوروبية لديها رأيها فيما يخص الصراع العربي الإسرائيلي، والتي حاولت العديد من المنظمات الأوروبية العمل ضمن برنامج شكّل في أجزائه مصلحة للقضية الفلسطينية. في حين لا يمكن الرهان على هذه المحاولات، حيث أن الأوروبيين كانوا دائماً يؤيدون القرارات الدولية التي تصوغها واشنطن تجاه أحداث المنطقة ومنها القضية الفلسطينية.
دلالات موقف الرئيس الفرنسي
عدة دلالات يمكن الوقوف عندها نُشير لها في التالي:
أولاً: أكد موقف الرئيس الفرنسي حالة السخط الأوروبي من سياسة أمريكا تجاه الحلفاء. في حين أثبت كلام هولاند إنجراف الدول الأوروبية للسياسة الأمريكية دون التفكير بالعواقب، وهو ما ذكَّرنا بكلام طوني بلير منذ أشهر، والذي حمل في مضمونه اعترافاً بريطانياً بالخطأ في التماشي مع السياسة الأمريكية تجاه العراق.
ثانياً: أثبت كلام الرئيس الفرنسي، أن أمريكا أخطأت في حربها تجاه العراق، وكذلك الغرب. في حين لم يعد يُجدي ذلك نفعاً، خصوصاً بعد أن حملت الحرب بنتائجها الكثير من المعاناة لشعوب المنطقة، وتحديداً الشعب العراقي الذي ما يزال يعاني من نتائج تلك الأزمة على الصعد كافة لا سيما الإجتماعية والإقتصادية والسياسية.
ثالثاً: لا يُعتبر كلام الرئيس الفرنسي إعترافاً فحسب، بل هو إدانة للدور الفرنسي، خصوصاً بعد أن كانت نتائج التدخل الأمريكي والغربي في العراق كارثية، لا سيما فيما يخص مسألة مكافحة الإرهاب. الأمر الذي يعني وقوف أمريكا كما الغرب خلف هذه المسائل، وتداعياتها على المنطقة والعالم.
رابعاً: يُوضع كلام الرئيس الفرنسي في خانة الإعتراف الذي جاء مُتأخراً. فيما يُلحظ أن السبب الرئيسي والدافع وراء هذا الكلام، هو حجم المعاناة التي باتت تعانيها الدول الأوروبية ومنها فرنسا، والتي أصبحت تحت خطر الإرهاب الدائم. وهو ما يجعل أوروبا مُضطرة للسعي نحو مصالحها، حيث بات الأمر يتعلق بوجودها.
لا شك أن الكلام الفرنسي سيطرح العديد من التساؤلات. لكن ذلك وبالإضافة الى كل ما أوردناه يمكن أن يكون اعترافاً أوروبياً بالتبعية العمياء لأمريكا. فيما نطرح السؤال الأبرز، والذي لن يُجيب عنه سوى المستقبل: هل قررت فرنسا تعديل سياستها تجاه المنطقة بعيداً عن الرضا الأمريكي؟