الوقت- ليس حدثاً عابراً أن ترى الجموع الغفيرة من الصائمين في شهر رمضان المبارك، يخرجون على امتداد العالم -بالرغم من قيظ الصيف وشدة الحر- في مسيرات حاشدة ظهيرة يوم الجمعة الماضية، إحياءً ليوم القدس العالمي. ولا يمكن أن يمر المرء مرور الكرام على مشهد الجماهير المحتشدة من الرجال والنساء، وقد امتلأت الشوارع بهم في 850 مدينة إيرانية، وعشرات المدن والعواصم في العالم، وهي ترفع شعارات القدس، ودعم القضية الفلسطينية والبراءة من العدو الصهيوني، وتصدح حناجرهم الصائمة وشفاههم الذابلة بشعارات "الموت لاسرائيل، الموت لأمريكا"، "يا أيها المسلمون اتحدوا".
ففي طهران مثلاً والتي تجاوزت درجة الحرارة فيها يوم الجمعة الماضي عتبة الـ 41 درجة، كان لافتاً الحضور الجماهيري الكبير في مسيرات يوم القدس. والتي كشفت بجلاء ووضوح عن عمق القضية الفلسطينية في وجدان الشعب الإيراني المسلم. فهنا اطفال صغار يرافقون آبائهم تحت شمس الصيف الحارقة، نساء يتوشحن العباءة السوداء تحت لهيب الصيف الحامي، يحملن لافتات وشعارات الدفاع عن القدس وفلسطين، صناديق التبرعات التابعة لهيئة امداد الامام الخميني(رحمه الله)، والتي كتب عليها "مساعدة شعب فلسطين المظلوم"، تملأ المكان. هنا يمكن رصد مدى الاقبال الشعبي الكبير، (وليس فقط الحكومي) على قضية دعم فلسطين والذود والدفاع عنها.
هذه صورة واحدة من صور المسيرات المليونية والمظاهر الاحتفالية التي ملأت العديد من دول العالم إحياءً ليوم القدس، في كل من إيران والعراق واليمن وسوريا ولبنان ونيجيريا، وغيرها من الدول، حيث أن هذه الصور مجتمعة تجسد بجلاء ظاهرة الصحوة الاسلامية الحقيقية في وجه مشاريع الاستكبار العالمي، وتذكر بأنه ما زال هناك شعوب حية لا تنسى مقدساتها، ولا تسكت عن الظلم، ولن تحرف بوصلتها عن قضية العرب والمسلمين الأولى مهما كانت الأثمان، وهي ماضية في نضالها حتى تحرير الأرض واستعادة الحقوق.
هذه الظاهرة التي امتدت على مدى 37 عاماً، هي عمر الثورة الاسلامية الإيرانية، والتي بدأت منذ أن أعلن الإمام الراحل آية الله الخميني، يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان يوماً للقدس، لا يمكن إلا أن يقف الانسان عندها، لما تحمله من مضامين اسلامية سياسية وانسانية واخلاقية عالية.
ولكن مالِ آذان صُمّت، وعيون عَميت؟!!
إذ لم تنل هذه الظاهرة نصيبها من التغطية الاعلامية في العالم، حتى من وسائل الاعلام التي تدعي الحياد ونقل الأحداث كما هي، وهو أمر غير مألوف تجاه ظاهرة بهذا الحجم، شارك بها الملايين من الناس حول العالم. بل إن وسائل الاعلام الغربية والعربية (الخليجية بشكل خاص)، انتهجت سياسية متعمدة للتعتيم على هذا الحدث الكبير، وإبقائه تحت الظلام ما أمكن، والسعي لحجب قضية يوم القدس عن الرأي العام العربي والعالمي.
وقد أشار قائد الثورة الاسلامية سماحة السيد علي الخامنئي خلال استقباله أمس لحشد من الطلبة الجامعيين إلى هذا التعتيم الممنهج، محذراً من الدعاية الاعلامية للعدو، التي تهدف إلى التعمية على نقاط القوة للجمهورية الاسلامية، وتضخيم بعض النقاط السلبية لزرع اليأس والاحباط لدى الشعب والشباب، معتبراً عدم تبيان المشاركة الشعبية الواسعة في مسيرات يوم القدس العالمي في وسائل الاعلام الاجنبية مثالا لهذا الامر، واضاف، "ان مسيرات يوم القدس التي جرت يوم الجمعة في طقس حار جدا وفي حالة الصوم تعتبر ظاهرة مميزة ومنقطعة النظير الا انها لم تُعكس كما ينبغي في وسائل الاعلام الاجنبية في حين لو كانت هنالك نقطة سلبية فانهم يعملون على تضخيمها مئات اضعافها".
ويرى مراقبون أن سياسة التعتيم التي انتهجتها وسائل الاعلام العربية والخليجية إزاء يوم القدس، هو أمر طبيعي، إذا ما نظرنا إلى موقف الحكومات التي تقف خلف وسائل الاعلام هذه، فهذه الدول تريد في محاولة يائسة أن تتجنب الاحراج أمام شعوبها، خاصة وهي تمضي في تطبيع العلاقات مع الكيان الاسرائیلي على أعلى المستويات، في حين أن الدول التي تدافع عن قضية المسلمين الأولى، هي نفسها التي تشن هذه الدول العربية عليها العدوان، وتجند لإنهاكها التكفيريين من كل مكان، وتضخ مليارات الدولارات في سبيل تدميرها وتغيير أنظمتها.
لم يجاف سماحة السيد حسن نصرالله الحقيقة حين قال في خطاب يوم القدس، بأنه "لو كُشف عن ظهور جميع الدول التي تحيي يوم القدس وتقف إلى جانب القضية الفلسطينية، لرأينا آثار صيات السعودية"، التي بدأت بنقل علاقاتها مع الكيان الاسرائیلی إلى العلن، ولم تعد تخجل من التطبيع المعلن معه.
فلم يعد مستغرباً التعتيم على احياء يوم القدس العالمي مع ما يمثله هذا اليوم من أهمية كبيرة، فيوم القدس هو تصحيح لبوصلة الصحوة الاسلامية، التي جهدت الدول الغربية طوال السنوات الماضية، لحرفها عن مسارها، وخلق والترويج لنوع جديد من "الاسلام"، يكفر عموم المسلمين، ويرتكب المجازر في الناس الأبرياء، ويقوم بالعمليات الانتحارية التي تقتل فقط المسلمين، فيما الصهاينة والكافرين في مأمن منها، فتصبح الجماهير الاسلامية بين نموذجين أحدهما يكفر والآخر يطبع، بل ويجمع بين الأمرين. يوم القدس يذكر بأن هناك نموذج آخر للاسلام، لا يكفر ولا يطبع، بل يحارب التكفيريين، ويناهض التطبيع ويمثل مصداقاً للمؤمنين في الآية الكريمة : "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا".
يوم القدس هو تجسيد لبوصلة الحق وتمييز الحق من الباطل في زمن غارق في الفتن المذهبية والتضليل الاعلامي، هو البرهان على عدالة قضايا الشعوب التي لم تمنعها آلامها، من الدفاع عن قضية المسلمين الأولى، وهو ما بدا جلياً في المسيرات التي عمت شوارع اليمن الجريح في يوم القدس والتي رفعت شعار "رغم العدوان فلسطين قضيتنا الأولى".
يوم القدس يكشف المستور ويميط اللثام عن التحالف غير المعلن بين التكفيريين والصهاينة، إذ أن جميع الشعوب التي تحيي هذا اليوم، لديها قاسم مشترك، ألا وهو استهدافها من قبل التكفير الذي يمارس اليوم دور الحامي للكيان الاسرائيلي ومحاربة كل الجهات المعادية له. فهل علمتم لماذا يحاربون يوم القدس؟