الوقت- يشكل الاستفتاء الذي أجرته بريطانيا منعطفاً هاما على مستويات عديدة، ورغم أن قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يبدو قراراً داخلياً، إلا أن انعكاساته واسعة لا تقف عند حدود الاتحاد الأوروبي، فهناك دول كثيرة خارج حدود أوروبا ستتأثر بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ورغم أن الاستفتاء الشعبي يجب أن يمرر على البرلمان حتى يتم اتخاذ القرار النهائي، إلا أنه من الصعب جداً أن يرفض البرلمان نتائج التصويت.
أولا: الانعكاسات على الاتحاد الأوروبي:
يعتبر خروج بريطانيا أقوى ضربة تلقاها الاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه وخاصة أن القرار البريطاني يأتي في أحنك الظروف التي يمر بها الاتحاد الأوروبي، من أزمة اللاجئين إلى الأزمة الاقتصادية في اليونان مروراً بالأزمة الأوكرانية، كل هذه المشاكل تطلب المزيد من التعاون والتنسيق، ولهذا فخروج بريطانيا من الاتحاد يصعب المهمة على باقي الدول وخاصة الكبيرة وذات النفوذ كألمانيا وفرنسا.
من البديهي أن الاتحاد الأوروبي لن ينهار بين ليلة وضحاها بسبب خروج البريطانيين إلا أنه بات مهدداً بالانهيار، وقد قال رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك لصحيفة "بليد" الألمانية "أخشى أن يكون خروج بريطانيا مؤشرا ليس فقط على بداية انهيار الاتحاد الأوروبي وانما الحضارة الغربية"، وما يهدد الاتحاد الأوروبي هو تحسن أوضاع بريطانيا ونموها بعد الانفصال بشكل أكبر وأسرع من قبل فهذا سيكون بمثابة شهادة دامغة على فشل الاتحاد الاوروبي ما يشجع حركات انفصالية جديدة.
ومن جهة ثانية فإن خروج بريطانيا يعد ضربة قوية لثقل الاتحاد الأوروبي السياسي، فلم تعد العقوبات الجماعية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي ضد الدول والحكومات الأخرى بنفس فاعليتها السابقة، وخاصة إذا ما اظطر الاتحاد الأوروبي إلى جعل سياسته الداخلية أكثر مرونة منعا لتصدعات جديدة.
ثانياً: الانعكاسات على بريطانيا نفسها:
لا يمكن القول أن الانفصال يخدم بريطانيا كما لا يمكن قول عكس ذلك والقضية معقدة بالنسبة للداخل البريطاني ولها وجهان أحدهما سلبي والآخر إيجابي.
الآثار السلبية: تشمل هذه الآثار على جانب اقتصادي هام، فقد أكد وزير المالية البريطاني أن الخروج من الاتحاد يمكن أن ينجم عنه رفع الضرائب على البريطانيين وخفض النفقات وذلك لتعويض نقص مالي بقيمة 30 مليار جنيه إسترليني ما يعادل 38 مليار يورو، ومن الخسائر المتوقعة أيضا هو فرض رسوم جديدة على حركة الإستيراد والتصدير من والى بريطانيا على اعتبار أن 45% من صادرات بريطانيا هي الى دول الاتحاد الأوروبي، كما أنها تستورد سنويّا بمعدّل 45 مليار يورو من ألمانيا وحدها، وهذه التبادلات التجارية ستكون أمام ضرائب جديدة ورسوم جمركيّة في حال الانفصال.
هذا ولن يكون نصف مليون عامل بريطاني في أوروبا بعيدين عن التغييرات الجارية، فهم سيعانون من مشكلة فرق العملات بالإضافة إلى شروط إقامة جديدة، كما أن بريطانيا باتت مهددة بعقوبات أوروبية صارمة منعاً من انفصال دول أخرى، وفي حال تمت العقوبات فستشهد بريطانيا ظروفا اقتصادية صعبة.
ومن أشد التبعات خطرا على بريطانيا هو انفصال سكتلندا، ورغم أن التصويت الذي جرى عام 2014 منع الانفصال عن بريطانيا، إلا أن خروج الأخيرة من الاتحاد الأوروبي رفع وتيرة أصوات الانفصال عن بريطانيا في اسكتلندا وذلك لأن مصلحة اسكتلندا تتمثل في البقاء مع الاتحاد الأوروبي لأن هذا الاتحاد يموِّل المزارعين الأسكتلنديين مباشرة، وصرَّح أكثر من مسؤول اسكتلندي عن استمرار التعاون مع الاتحاد بمعزل عن قرار بريطانيا، وهذا يشير إلى أن اسكتلندا وضعت قدمها الأولى على طريق الانفصال.
الآثار الايجابية: كانت تعاني بريطانيا من عدم انسجام قرارات الاتحاد الأوروبي مع المصالح البريطانية، وكانت في كثير من الأحيان مضطرة لقبول هذه القرارات والتعامل معها كونها عضوة في الاتحاد الأوروبي، وهذا ما يجعل الانفصال وسيلة لحفظ المصالح البريطانية.
ثالثاً: الانعكاسات على أمريكا:
رغم أن المرشح الأمريكي ترامب وشخصيات سياسية أخرى كانت تدعم الانفصال، إلا أن الحكومة الحالية وكذلك السياسة العامة الأمريكية لا تشجع أبداً على انفصال بريطانيا، وذلك لأن لندن تعتبر المروج الأول للسياسات الأمريكية في الاتحاد الأوروبي، وهذا يعني أن خروج بريطانيا سيقلل من النفوذ الأمريكي في الاتحاد الأوروبي.
من جهة أخرى كانت أمريكا تتعامل مع الدول الأوروبية ككتلة واحدة، ولكن بعد انفصال بريطانيا سيتحتم على الأمريكيين اقناع البريطانيين بشكل منفصل عن الأوروبيين، بالإضافة إلى أن أمريكا قلقة من نمو بريطانيا بشكل كبير ودخولها إلى الساحة السياسية الدولية بشكل أكثر فاعلية، وهذا يعني أن واشنطن قد تصبح أمام خصم سياسي جديد بالإضافة إلى الخصم الروسي.
رابعاً: الانعكاسات على روسيا:
يمكن القول أن انفصال بريطانيا من مصلحة موسكو، فكلما كان الاتحاد الأوروبي أضعف ستصبح العقوبات المفروضة على روسية أقل جدية، كما أن روسيا ستتمكن من المناورة بشكل أكبر فأصبح بإمكانها مفاوضة بريطانيا بشكل مستقل عن أوروبا، وفي حال تدهورت العلاقات الأوروبية-البريطانية فإن العلاقات الروسية البريطانية ستكون أمام فرصة أكبر للنمو.
في النهاية يمكن القول أن القرار البريطاني أدخل الاتحاد الأوروبي وبريطانيا في نفق مظلم قد يقلب أحوال منطقة اليورو بأسرها، وكل ما سيجري في المستقبل يعتمد على القرارات البريطانية والأوروبية ومدى توافق الطرفان وتفاهمهما، وفي كل الأحوال تنظر الشعوب العربية والإسلامية إلى تفكك الاتحاد الأوروبي بعين إيجابية نتيجة ما لاقته هذه الشعوب من مصائب جراء سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه المنطقة العربية والإسلامية.