"والآن، فإني أستأذنكم أيها الأخوات والأخوة، لأسافر نحو مقري الأبدي، بقلبٍ هادئٍ وفؤادٍ مطمئن، وروح فرحةٍ وضمير آمل بفضل الله. واسألكم بإلحاح، الدعاء بالخير. كما اسأل الله الرحمن الرحيم أن يقبل عذري عن قصوري وتقصيري. وآمل من الشعب أن يقبل عذري، لما قصرت أو كنت قاصراً فيه، وأن ينطلق الى الامام بقدرة وإرادة وتصميم ".
بهذه الكلمات أعلن الإمام الخميني، أدبياته في هجر الأحبة في دار الدنيا، وتوقه للقاء الحبيب الأكمل. لم تكن كلماته كلماتٍ شعريةً، بقدر ما كانت كلماتٌ تعبِّر عن حجم العرفان الحقيقي الذي كان يتمتع به. رحل الإمام، بهدوء، فيما خاطب في آخر كلماته التي ذكرناها، شعباً آمن به، وإلهاً لم ينحنِ إلا له، ونفساً إتهمها بالتقصير. وهو الأمر الذي جعل الملايين من الذين لم يتشرفوا بمعرفته عن قرب، للتساؤل عن حجم العظمة التي كانت تتمتع بها شخصية الإمام الخميني. أما عارفوه ومحبوه، فقد تساءلوا، عن أي قصورٍ يتحدث الإمام؟ إنه قصور القائد الكامل، والعارف الحقيقي، الذي يعتبر نفسه مُقصراً على الدوام.
على أعتاب المنتصف من خرداد عام 1368 شمسي، والذي صادف أوائل حزيران عام 1989 ميلادي، هيَّأ الإمام الخميني نفسه، بعد أن كان قد لمَّح في أبياتٍ شعريةٍ خلَّفها، كان قد كتبها قبل سنواتٍ من الرحيل، قائلاً: "تمر السنين وتتوالى الحوادث، وانا انتظر الفرج في منتصف خرداد". وكانت الأبيات التي سبقت هذا البيت من الشعر، تتحدث عن ألم الهجران والأمل بتحقق لحظة الوصال. وها هي لحظة وصال المحبوب بالحبيب قد حانت في النصف من خرداد 1368 شمسي.
قبل أيامٍ من الوفاة، كانت الجماهير في إيران والعالم، على علم بمرض الإمام. كما كانت الجماهير على درايةٍ بوضعه الصحي، والعملية التي أُجريت له. الأمر الذي جعل الملايين يجتمعون في إيران والعالم، للدعاء والتوسل، وهي التي لم تُخف آثار الحزن، فالعيون باكية، والساعات تمر ببطء، والقلوب تتأمل المستقبل بقلق.
ولعل من الأمور التي تُعتبر كنزاً إرشيفياً، وخلال الأيام الأخيرة للإمام والتي لازم فيها فراش المستشفى، وضع محبو الإمام جهاز تصوير مخفي تمَّ من خلاله تصوير لحظات حياة الإمام في تلك الأيام. وهو الأمر الذي جعل الملايين ممن شاهدوا تلك اللقطات، التي بثها التلفزيون الإيراني لاحقاً، يعيشون حالةً من الشوق الى الحد الذي لا يمكن وصفه إلا من خلال الرؤية المباشرة.
وبعد أن عجز الفريق الطبي المشرف على علاج الإمام، مُستنفذاً كل ما في وسعه من وسائل، كان أمر الله، وحانت الساعة، "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية، فادخلى في عبادي وادخلي جنتي". وفي تمام الساعة الحادية عشرة وعشرين دقيقة قبيل منتصف ليل الثالث عشر من خرداد 1368(حزيران 1989ميلادي) حانت لحظة الوصال. وتوقف قلب المُلهم الذي أضاء قلوب الملايين من أبناء العالم، بنور الله وفيضه.
وحين اذيع خبر إرتحال الإمام، حدث ما يشبه وقوع زلزال عظيم. تفجَّرت الأحزان، وانفجرت العيون بالدموع، في وقتٍ واحد، في إيران والعالم. حينها وجراء ما حدث من ردة فعل، لم يستطع أحدٌ تصوير ما جرى. بل إن الأقلام لم تستطع أن تختار الكلمات المُعبِّرة عن واقع الحدث.
في يوم وليلة الخامس من حزيران 1989 ميلادي، تجمع الملايين من أبناء طهران بالإضافة الى أبناء المدن والقرى، في مصلى طهران الكبير، ليلقوا النظرة الأخيرة على الجثمان الطاهر. لم يكن هناك إثرٌ للمراسم الرسمية، فكلّ شىءٍ كان جماهيرياً تعبوياً يُعبَّر عن العشق الكبير الذي يحمله الشعب الإيراني للراحل. وكان جثمان الإمام الموشّح باللون الأخضر، موضوعاً يتحلق حوله الملايين من اصحاب العزاء، وكل واحد من ذلك الجمع الغفير يتمتم بحزن. وبقيت الجموع المفجوعة تندب فقيدها حتى الصباح. شعرت الأمة حينها باليُتم، فقد رحل الأب الحنون، والقائد المُلهم.
وفي أول ساعات اليوم السادس من حزيران، أدت الملايين صلاة الميت، في أكبر جنازةٍ في التاريخ. وهو الأمر الذي ذكَّر العالم، بتاريخ 12 بهمن 1357 شمسي، أو 1 شباط 1979 ميلادي يوم استقبل ستة ملايين شخص الإمام الخميني. وفي يوم تشييعه، تكرَّر المشهد. فيما قدَّر مراسلو وكالات الأنباء العالمية عدد المشيِّعين بأكثر من تسعة ملايين شخص.
رحل الإمام الخميني بعد حياةٍ مليئةٍ بالإنجازات. لم تكن إنجازاتٍ عادية. بل كانت إنجازاتٍ شكَّلت منعطفاً في تاريخ البشرية. لا سيما في تاريخ الأمة الإسلامية. فقد كان رضوان الله عليه، نعم القائد العارف للمسؤولية، وصاحب البصيرة النافذة التي جعلته يُرسِّخ الوحدة الإسلامية كهدفٍ للمسلمين. فيما كانت ثورته التي قادها في إيران، ثورة تخطَّت آثارها حدود البلاد، بل تعدتها لتكون الشرارة التي حرَّكت كل المستضعفين في المنطقة والعالم. وما زالت آثارها حتى اليوم.
بإختصار، لم يكن الإمام الخميني رجل سياسةٍ أو دين فحسب. بل كان شخصيةً تعدت في تأثيرها حدود الفرد، وخلَدت في مضامين إنجازاتها دروساً للمستقبل، فهِمنا بعضها، ومع الأيام قد نفهم المزيد. أما في ذكراه الخالدة، فلا بد أن نتوجه للأمة الإسلامية في العالم ولجميع المستضعفين بكامل العزاء والمواساة لرحيل هذا القائد الكبير، روح الله الموسوي الخميني.