الوقت - يحيي بعض العرب في هذه الأيام ذكرى الثامنة والستين لنكبة فلسطين، ولنكبتهم فيها. نقول بعض العرب، لأن البعض الآخر ما عادت تعنيهم الذكرى، أو لأن نكباته باتت تفوق النكبة الأولى. لو قاتل العرب عام 1948 ووحدوا صفوفهم لربما صمدوا، لكن قلة هي التي راجعت تلك الأخطاء والخيانات بعقل نقدي علمي. لا ندري أصلاً لماذا نحيي ذكرى النكبة طالما أن النكبة مستمرة، فالقتل والتشريد والمستوطنات والاحتلال كلها لا تزال تتم على يد الکيان الاسرائيلي في واحد من أطول صراعات العالم.
ويحيي بعض العرب هذه الأيام ذكرى سايكس – بيكو، حيث آنذاك كذبت فرنسا وبريطانيا على العرب، وهم صدقوا أنهم بعد أن يقاتلون الى جانبهم ضد ألمانيا النازية، ستجري من تحت أقدامهم أنهار اللبن والعسل وتقوم لهم دول مستقلة. ولكن لم تجر تحت أقدامهم الا أنهار الدم. نقول بعض العرب يحيي الذكرى المئوية لسايكس-بيكو لأن بعض العرب الآخرين صار عندهم من التقسيم والتقاتل والفتن ورسم الحدود وقيام كيانات بأسماء كثيرة، ما بات يتخطى بالدم ما حصل أيام الفرنسي والبريطاني الذي فضحهما آنذاك الروسي.
ويحيي اللبنانيون وبعض العرب( لم نعد ندري كم هو هذا البعض) ذكرى تحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي عام 2000، سواعد المقاومين الأبطال التي حررت تلك الأرض المحتلة السليبة التي كان الاسرائيلي يتغطرس فوقها ويجوب سماءها ويسرق رزقها ويقتل ويسجن أهلها. تلك السواعد صارت اليوم مثار انقسام عربي. فبعض الدول تضع حزب الله على لائحة الارهاب، وبعض الدول تخشى المجاهرة بالدعم وبعضها الثالث تعيب على الحزب انخراطه بحروب عربية ومنها سوريا.
وهنا يطرح السؤال نفسه، ماذا بقي فعلاً من الصراع العربي الاسرائيلي بعد أن قامت معظم الدول العربية بعلاقات مباشرة أو غير مباشرة مع الکيان الاسرائيلي؟
الشعب الفلسطيني وحيداً
هناك زلزال قد ضرب الشرق الأوسط وخصوصاً المفاهيم والقيم العربية وأهمها العروبة، هذا الزلزال ضرب المقاييس والعلاقات والتحالفات، وبالتالي لا عجب أن ترى ما كان محرماً بالأمس أصبح مباحاً اليوم. الفلسطينيون أصبحوا محاصرين في منطقة صغيرة للغاية ومغلقة من جميع الجهات وذلك بسبب التأثر المباشر لما يجري في العالم العربي، حيث هذا الوضع لا يسمح للفلسطينيين بأن يتعدوا الذين فيه الآن، واختصروا الهدف في هذه المرحلة بأن يصمدوا في أرضهم وأن لا يرفعوا الراية البيضاء، وأن لا يسلموا للاسرائيلي بما يريدونه من رسم مستقبل للشعب الفلسطيني. واذا استطعنا أن نحافظ على هذا فقط كعرب نكون قد حققنا انجازاً كبيراً، ولكن وبسبب ارتهان بعض الدول العربية للحسابات الامريكية الصهيونية، منع العرب من الوفاء بالامكانيات التي يطالب بها الفلسطينيون للبقاء في أرضهم وعدم الاستسلام.
دعونا نلاحظ الأمور التالية:
1- فلنبدأ بمصر التي تعتبر من طليعة الدول العربية التي عقدت معاهدات سلام مع الكيان الاسرائيلي(كامب دايفيد 1978)، حيث يصف المحللون علاقاتها اليوم بالکيان الاسرائيلي بالممتازة. سمح لها ذلك باستخدام أسلحة ومساحات أوسع مما تنص عليه المعاهدة في سيناء. هذه سابقة منذ 38 عاماً. وبعد أن ضيقت الخناق على حماس وغزة والمعابر، ها هي مصر تسلّم الآن جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية. هل حصل تنسيق مسبق مع الکيان الاسرائيلي أو أمريكا؟ ربما، لكن الأكيد أن للجزيرتين دوراً في مستقبل العلاقات مع الکيان الاسرائيلي في خليج العقبة والمعابر البحرية.
2- ثانياً السعودية والتي تعتبر ذات الثقل الإسلامي الأكبر، يقول عنها نتنياهو اليوم: "إن السعودية ترى في إسرائيل حليفاً وليس تهديداً، وإن دولاً كثيرة غير المملكة في العالم العربي باتت كذلك". وصدرت قبل موقفه هذا بعض المؤشرات اللافتة، ومنها مثلا مقال للأمير السعودي تركي الفيصل في «هآرتس» ثم مقابلة له معها شدد فيها على السلام. سبقته قبل سنوات مبادرة سعودية للسلام صارت في القمة العربية في بيروت عام 2002 مبادرة تطبيع كامل. آنذاك قيل إن المبادرة جاءت لتخفيف الضغوط الأمريكية عن الرياض والتي تفاقمت بعد اتهام 15 سعودياً بالتورط في العمليات الإرهابية التي ضربت نيويورك عام 2001.
3- ثالثاً العراق، الذي ما عاد قادراً أو ربما راغباً، بوقف اوتوسترادات العلاقات بين شماله الكردي والکيان الاسرائيلي، حيث توريد النفط من كردستان عبر تركيا إلى المصافي الإسرائيلية ما عاد سراً. (ربما بعض العلاقات لا يقتصر على الشمال ولا على الكرد).
4- السودان الذي ساهم الکيان الاسرائيلي بتدريب متمرديه الجنوبيين سابقاً، انفصل جنوبه، وشهد خلال السنوات الماضية حضوراً إسرائيلياً تجارياً وأمنياً وسياسياً لافتاً. لنتذكر أن أول زيارة رسمية إلى الخارج قام بها رئيس السودان الجنوبي سلفاكير ميارديت كانت إلى الکيان الاسرائيلي. وهذا لم يمنع السودان من إقامة سفارة له في الجنوب.
هذه 4 دول عربية كبيرة وكانت مركزية في الحروب العربية الإسرائيلية. نضيف إليها الدول التالية التي خرجت عملياً من الصراع: الأردن (معاهدة وادي عربة)، موريتانيا (سفارة إسرائيلية منذ 1999)، تونس (مكتب لرعاية المصالح منذ 1996) المملكة المغربية (مكتب ارتباط منذ 1994) قطر (افتتاح مكتب تجاري منذ 1996 واتفاقيات كثيرة لاحقاً بينها الغاز) سلطنة عمان (مكتب للتمثيل التجاري منذ 1996). الإمارات العربية (تأشيرة للاعب تنس إسرائيلي وإعلان وزارة الخارجية الإسرائيلية العام 2015 عن افتتاح ممثلية ديبلوماسية لدى وكالة الأمم المتحدة للطاقة المتجددة في أبو ظبي).
وأمام هذا الانفتاح العربي الاسرائيلي تستغل الأخيرة القلق العربي من ايران لتقول إنها "الحامي لكم أيها العرب أمام النفوذ الفارسي"، تذكرنا بوعود سايكس-بيكو، وهي كانت تقول نفس الشيئ للبنانيين كانوا عملاء لها وقاتلوا الى جانبها، ولكنها رمتهم على قارعة الطريق حين اضطرت الى الانسحاب، ولماذا تصدق اليوم وهي بنيت على فكرة تقسيم ما حولها، ولو صدقت فلماذا ازداد احتلالها للأراضي الفلسطينية بعد اتفاقيات السلام، قتلت دمرت اجتاحت من فلسطين الى لبنان.
من هنا أمام مشهد الخراب العربي والحرائق المشتعلة، لم تعد فلسطين أولوية ولا عاد الکيان الاسرائيلي هو العدو الأول للنظام العربي الجديد أو العتيد. دول كثيرة فتحت وتفتح علاقات معه. ودول أخرى غارقة في حروبها ودمارها الداخلي، ودول ثالثة تنشد الحياد.
وأمام هذا المشهد، لا بد من نهضة عربية غير رسمية، تعيد البوصلة إلى مكانها الصحيح. نهضة لا تفرّق بين سني وشيعي ولا بين مسلم ومسيحي وتقفز فوق الصراع السعودي الإيراني وفوق كل صراع لوقف الحرائق وإنقاذ ما بقي من فلسطين. فالکيان الاسرائيلي الذي يغازل هذه الدولة أو تلك، لا يريد لنا جميعاً سوى الدمار أو الخنوع من الرياض إلى بغداد فدمشق والقاهرة وبيروت.