الوقت- لا شك أن التسريبات التي ظهرت فيما سُمي "وثائق بنما" أو "أوراق بنما"، أحدثت ضجة في الإعلام العالمي. فهي نالت من عددٍ كبيرٍ من الشخصيات السياسية وشخصيات أخرى. فيما كان لافتاً عدم التعرض لدولٍ كأمريكا أو أخرى عربية كالدول الخليجية. وهو ما طرح العديد من التساؤلات حول المغزى والتوقيت. فماذا في وثائق بنما المُسربة؟ وماذا يمكن القول فيها؟
بنما والفضيحة المالية
11,5 مليون وثيقة سُرِّبت من مكتب المحاماة البنمي "موساك فونسيكا"، الذي يعمل في مجال الخدمات القانونية منذ أربعين عاماً وله مكاتب في 35 بلداً. وكان هذا المكتب يعمل على إنشاء شركات تُعرف بـ"أوف شور" لزبائنه في دول تعتبر ملاذاً ضريبياً، بهدف تهريبهم من دفع الضرائب أو لتمكينهم من تبييض الأموال. وكشفت "وثائق بنما" عمليات مالية لأكثر من 214 ألف شركة في أكثر من 200 دولة ومنطقة حول العالم.
وتظهر الوثائق المسرّبة أن لـ"موساك فورينسكا" دوراً محورياً في إدارة عمليات تبييض أموال، وإخفاء أملاك لا يريد أصحابها كشفها. الى جانب دورها في إدارة الرشاوى وتجارة الأسلحة والمخدرات، والإحتيال المالي، والتهرّب من الضرائب، وحتى الإتجار بالأشخاص، وتلك الأعمال كلها تعود إلى العديد من الزعماء، والسياسيين، وأصحاب الأعمال والمشاهير.
القصة كما يتم تداولها
تبدأ القصة بالحديث عن أن القضية تعتبر إحدى كبرى عمليات تسريب الوثائق للصحافة في التاريخ. حيث سلَّم مصدرٌ مجهولٌ 11.5 مليون ملف سري من سجلات شركة "موساك فونسيكا" ومقرها بنما، والتي قدَّمت خدمات لـ72 من قادة دول العالم الحاليين والسابقين (بعضهم قامت ضدهم ثورات واحتجاجات) تهدف في النهاية إلى إخفاء أموالهم عن أعين الضرائب والرقابة، وإلى عدم إثارة الكثير من الأسئلة عن مصادرها، وشرعية الحصول عليها. وتضم الوثائق مراسلات بريدية، وحسابات بنكية، وسجلات عملاء يرجع تاريخها إلى 40 عاماً، خاصة بعملاء الشركة الذين لم يقتصروا على الحكام العرب فقط، ممن قامت ضدهم ما عُرف بثورات الربيع العربي أو عُرفوا بصلاتهم بقضايا فساد وتهريب أموال، بل ضمَّت القائمة 140 سياسياً، وأفراد عائلاتهم، وشركائهم، ومسؤولين حكوميين في إفريقيا، وآسيا، وأوروبا، وأمريكا اللاتينية.
عملية التسريب قادها المصدر المجهول إلى الصحيفة الألمانية ("زود دويتشه تسايتونج" (Süddeutsche Zeitung)) منذ عامٍ تقريباً، فقرَّرت الصحيفة مشاركتها مع الإتحاد الدولي للصحافة الإستقصائية (ICIJ) وحوالي 400 صحفي عالمي من 107 مؤسسة صحافية في 78 دولةً لتحليل هذا الكم الهائل من البيانات والتي جاءت في بحجم 2.62 تيرابايت من البيانات.
ردود الفعل الدولية
وبعيد الإعلان عن الفضيحة وخروج التسريبات، أعلن القضاء البنمي، أمس، أنه سيفتح تحقيقاً في فضيحة "وثائق بنما" والتي كشفت تورط رؤساء دول حاليين وسابقين وشخصيات من عالم السياسة والمال والرياضة في عمليات تهرب ضريبي. وقالت النيابة العامة البنمية في بيان إنه سيتم التحقيق في وقائع التحقيق الصحافي الضخم الذي كشفه الإتحاد الدولي للصحافيين الإستقصائيين، وأوردته وسائل إعلام وطنية ودولية تحت اسم "أوراق بنما". ويرمي التحقيق إلى تبيان ما إذا كانت هذه الوقائع تنطوي على مخالفات قانونية وتحديد مرتكبي هذه المخالفات، وما إذا كانت قد تسببت بأضرار مالية.
وفي نفس الاطار، أقرت النيابة العامة البنمية أن المعلومات الواردة في الوثائق هي على درجة غير مسبوقة من التعقيد واتساع النطاق، ولكنها أكدت أنها ستستخدم كل الوسائل المتاحة أمامها في سبيل إنجاز هذا التحقيق.
بدورها، أكدت هيئة الدخل والجمارك في بريطانيا أنها ستحقق في عديد الملفات، وطالبت من المجمع الدولي للصحافة الاستقصائية أن يشاركها جميع المعطيات التي لديه. كما أعلنت النمسا أنها تحقق في اتهامات تتعلق بخرق مصرفين القانون المتعلق بغسيل الأموال، في حين أكدت النيابة العامة المالية الفرنسية فتح تحقيق أولي إثر المعلومات التي كشفت عنها "وثائق بنما"، وتضمنت أسماء لسياسيين ومسؤولين سابقين فرنسيين.
أما في موسكو، فقد كان الرّد شديد اللهجة، مستهدفاً الولايات المتحدة، حيث أعلن الكرملين أنّ التّحقيق أجراه عناصر سابقون في وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية "سي آي أيه"، ومسؤولون سابقون في وزارة الخارجية. واعتبر الكرملين، أنّ المستهدف الرئيسي في هذه التسريبات هو الرئيس "بوتين" بهدف "زعزعة استقرار" روسيا. في وقتٍ أعلن متحدث باسم وزارة العدل الأميركية، الإثنين، أنّ السلطات الأميركية تقوم بدراسة المعلومات المنشورة في إطار مسألة "وثائق بنما".
من جهتها طالبت منظمات غير حكومية عدة تحارب الفساد، بحظر الشركات الوهمية، إذْ اعتبرت منظمة "الشفافية الدّولية" أنّها تشكل "الجانب المظلم للنّظام المالي العالمي". وتتوالى تفاصيل إضافية حول هذه الفضيحة، فيما وعدت الصحافة بمواصلة كشف معلومات خلال الأيام المقبلة. وعلى لائحة "الإتحاد الدولي للصحافيين الإستقصائيين"، مشاهير مثل الممثل جاكي تشان من هونغ كونغ والمخرج السينمائي الأسباني بدرو المودوفار، وشخصيات رياضيّة مثل نيك فالدو وحتى أحد أعضاء الفيفا إلى جانب الشخصيات السياسية.
ماذا يمكن أن نقول؟
في وقتٍ تتوالى فيه الحروب الإعلامية، يمكن القول بأن السنوات الخمس السابقة، شهدت الكثير من التسريبات والتي كانت تهدف للترويج لسوق الفضائح وهنا يمكن الإشارة للتالي:
- بعيداً عن الحكم، إذ لا يمكن التأكد من صحة ما يقال، يمكننا القول بأن العالم اليوم أصبح يعيش حالة ردة الفعل على العديد من الفضائح. فالفضائح السياسية والتي اشتهرت بما سُمي الويكيلكس، أحدثت ضجة عالمية، ساهمت في إشغال الرأي العام ولسنوات. في وقتٍ كان يلاحظ فيه المراقبون أن الفضائح تخرج بشكلٍ دوريٍ وتخدم مصالح سياسية.
- واليوم يأتي زمن الفضائح المالية. فمنذ فترة خرجت سويسرا لترفع السرية المصرفية، وترضخ لضغوطات واشنطن للكشف عن العديد من الحسابات المالية، واليوم تخرج وثائق بنما، وكأنها تأتي في نفس السياق، دون وضوحٍ في الهدف.
يمكن القول أن النزاهة أصبحت أيضاً عنواناً للمتاجرة. ومما لا شك فيه أن هذه الفضائح تُدين أصحابها إن صحَّت. لكن السؤال حول الأسباب الكامنة والأهدف خلف ما يتم تداوله، خصوصاً أن عدداً من الدول المعروفة بغسل الأموال والتهرب الضريبي (والذي لم يعد سراً) كواشنطن وعدد من الدول الخليجية، لم تأتي ضمن اللائحة. أو أن السلسلة لم تظهر بأسرها الى العلن. لنقول أن الأيام المقبلة قد تكشف المزيد، فيما يمكن بإختصار القول، بأن وثائق بنما ليست سوى حقائق مُريبة تطرح تساؤلاتٍ عديدة حول التوقيت والهدف!