الوقت- أمريكا، روسيا لاعبان رئيسان في السياسة الدولية، وعندما تتحدد العلاقة بينهما بالخصومة، فإن هذا يصبح نقطة انطلاق للتفكير بحرب باردة، فصحيح أن لا وجود للمعركة الأيديولوجية السابقة أو حرب النجوم التي أعلنها الرئيس رونالد ريغان، لكن العلاقات الامريكية الروسية بالتأكيد وخاصة بعد العقوبات الاقتصادية الاخيرة في أدنى مستوى من العلاقات منذ نهاية الحرب الباردة .
التنافس من جديد
ينشغل العالم بدراسة أثر النزاع الروسي الأمريكي على السلم العالمي والعلاقات الدولية، وطرحت أزمة العلاقات الجورجية الروسية الأخيرة، سؤالا جوهريا حول ما إذا كانت العودة للحرب الباردة أمرا ممكنا، أو ما إذا كان نظام القطب الواحد المهيمن الذي ساد المسرح الدولي وطبع العلاقات الدولية بطابعه الخاص منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وحتى يومنا هذا، قد انتهى، ولم يعد خافياً على أحد أن العلاقات الروسية - الأمريكية تمر حالياً بمرحلة فائقة الصعوبة بسبب ثلاث قضايا خلافية أساسية, وهي النووي الايراني، والأزمة السورية, و الأزمة الأوكرانية .
النووي الايراني :
شكل ملف التعاون النووي الروسي مع إيران خلافا مزمنا في العلاقات الأمريكية الروسية، في ظل اتهامات واشنطن لإيران بالسعى لحيازة وإنتاج أسلحة نووية رغم تأكيد الأخيرة على سلمية برنامجها النووي، وقد أكد الرئيس الروسي بوتين أن بلاده ستواصل تعاونها مع طهران في كافة المجالات، بما في ذلك الصعيد النووي. رداً على هذه الخطوة قامت الادارة الأمريكية بنشر درع الحلف الأطلسي المضادة للصواريخ في أوروبا، الذي تعارضه روسيا منذ سنوات مما زاد من توتر العلاقات بين البلدين .
الأزمة السورية :
شكل مثلت منطقة الشرق الأوسط منذ اندلاع الأزمة السورية تحديدًا ساحة خلفية للصراع الأمريكي-الروسي. فموسكو منذ بداية الأزمة السورية وقفت بشكل واضح وصريح مع النظام السوري الذي يمثل حليفًا استراتيجيًّا لروسيا في المنطقة في مواجهة المعارضة المسلحة التي قدمت لها الولايات المتحدة وحلفاؤها دعمًا عسكريًّا عبر إعلان المسؤولين الأمريكيين عن تسليح المعارضة في مواجهة قوات النظام، وسياسيًّا من خلال إدانة النظام السوري، والمطالبة المستمرة بالرحيل الفوري للرئيس السوري بشار الأسد. ويرجع الموقف الروسي الداعم للنظام السوري لكون موسكو تخشى من فقدانها موطئ القدم الوحيد لها في المنطقة، وهو قاعدة طرطوس المطلة على البحر المتوسط، وهي المنطقة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة بشكل كامل .
الخلاف الروسي-الأمريكي كانت أبرز تجلياته اعتراض روسيا بجوار الصين على أربعة قرارات لمجلس الأمن الدولي كانت تستهدف فرض عقوبات على النظام السوري، وهو ما يحول دون إمكانية فرض عقوبات أممية على سوريا في المستقبل .
الأزمة الأوكرانية :
لم يشهد الحوار الروسي الأمريكي مثل هذه اللهجة الحادة طوال السنوات العشرين الأخيرة، فحتى خلال الأحداث التي وقعت في جورجيا في أغسطس/ آب من عام 2008، لم يهدد أحدٌ علناً بفرض عقوبات على موسكو، أما الآن فإن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها يسيرون في هذا الاتجاه .
العقوبات الغربية على روسيا
بعد الأزمة الأوكرانية فرضت الولايات المتحدة وأوروبا وكندا واليابان سلسلة من العقوبات الاقتصادية على روسيا، وطالت العقوبات التي طبقتها دول أخرى قطاع الطاقة والبنوك وتعليق القروض .
في أبريل/نيسان 2014، التحقت كل من ألبانيا وآيسلندا وأوكرانيا بالعقوبات التي فرضتها أوروبا وأميركا على روسيا، وفي الشهر نفسه فرضت واشنطن جولة ثانية من العقوبات بحظر المعاملات الاقتصادية في أميركا لسبعة مسؤولين روس و17 شركة روسية، كما أصدر الاتحاد الأوروبي حظر سفر في حق 15 شخصية روسية .
وفرضت واشنطن في 11 سبتمبر/أيلول 2014 عقوبات إضافية على روسيا شملت قطاعات المال والطاقة والدفاع، كما قررت دول الاتحاد الأوروبي إضافة 24 أعضاء في حكومة القرم إضافة إلى مسؤولين ورجال أعمال روس، وبهذا ارتفع العدد الإجمالي للأشخاص الذين تستهدفهم العقوبات الأوروبية إلى 119 .
في 13 ديسمبر/كانون الأول 2014، أقر الكونغرس الأميركي بمجلسيه بالإجماع ما سمي بقانون دعم الحرية في أوكرانيا، والذي يفرض عقوبات جديدة على شركات الأسلحة الروسية والمستثمرين في مشروعات النفط التي تعتمد على تكنولوجيا متطورة .
في أخر سلسلة من العقوبات وافق الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمس الجمعة على فرض قيود جديدة على شبه جزيرة القرم .
في المقابل لم تعلن روسيا عن أي عقوبات ضد أوروبا وأميركا في إطار الرد بالمثل على العقوبات المتوالية إلا بعدما شدد الغرب وطأة العقوبات في يوليو/تموز 2014 عقب إسقاط الطائرة الماليزية، إذ حظرت موسكو في بدايات أغسطس/آب 2014 استيراد قائمة واسعة من الأغذية لمدة عام من الدول التي فرضت عقوبات على موسكو بسبب الأزمة شرقي أوكرانيا، كما أعلنت نيتها بالأمس إعداد إجراءات جوابية على العقوبات الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة عليها، وقد أوضح وزير الخارجية الروسي أن العقوبات الجديدة لن تدفع روسيا للتخلي عن شبه جزيرة القرم نظرا لأنها "جزء تاريخي لا يتجزأ عن روسيا"، وقال:" أخذت الولايات المتحدة نصف قرن لاستعادة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا، وروسيا مستعدة للانتظار طالما كان هذا ضروريا حتى تلين واشنطن .
هل عودة الحرب الباردة أمر ممكن؟
رغم اعلان أمريكا وروسيا في نهاية "قمة سوتشي" في أبريل 2008، إنّ الدولتين لم تعودا عدوتين ولا تشكلان تهديدا إستراتيجيا الواحدة للأخرى، والدعوة إلى حوار يتناول الخلافات التي تفرق بينهما في شأن توسيع الحلف الأطلسي، والاهتمام المشترك بإنشاء نظام دفاعي مشترك مضاد للصواريخ مع أوروبا، الا أن العلاقات "الأمريكية - الروسية" يشوبها دائما عامل انعدام الثقة وإن كانت طبيعتها تختلف عن الصراع الإيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية .
روسيا لا تريد حربا باردة لا تقوى عليها، وتعلم أن الحرب الباردة "اقتصادية" بالدرجة الأولى، وهي خسرت الحرب الباردة من بوابة الاقتصاد أولا، ولا تريد معاودة الكرة، وكذلك تخشى أن تعاود أطراف دولية وإقليمية، فتح ثغرات في جبهتها الداخلية مجددا.
في المقابل، تحرص واشنطن على الإبقاء على "شعرة معاوية" مع روسيا، خشية أن تخرج سياسية الكرملين عن انضباطها حيال عدد من الملفات الساخنة: برنامج إيران النووي، تسليح سوريا على سبيل المثال، وضع عراقيل على طريق حلفائها في آسيا الوسطي وشرق أوروبا كما حدث في أوكرانيا .
خلاصة:
باختصار رغم تعدد القضايا والمسائل التي تشكل بؤراً للتوتر في العلاقات الأمريكية الروسية ودخولها غرفة الانعاش، الا أننا لسنا بصدد حرب باردة جديدة كما كان عليه الحال قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، ولكن قد يحصل كما في تلك الطرفة: "لن تكون هناك حرب، ولكننا سنخوض معركة طاحنة من أجل السلام ".