الوقت- شهد العقد الأخير خروج تركيا عن تقاليد مصطفى كمال أتاتورك الممتدة منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 الى أوائل القرن الحالي والتي رجحت عدم الانخراط في شؤون الشرق الأوسط، مفضلةً تعزيز العلاقات مع الغرب، لكن حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى سدة الحكم عام 2002 أولى اهتماماً كبيراً في منطقة الشرق الأوسط، في إطار الارتقاء بالدور التركي اقليمياً لتصبح لاعباً مهماً وفعالاً في المنطقة. منذ ذلك الحين انتهج الحزب، سياسة «صفر مشاكل» مع الجيران كبوابة لولوج العالم العربي بحيث تصبح تركيا شريكاً أساسياً في نسج السياسات العربية، لكن عقب ما يسمى بالربيع العربي، تخطت أهداف أردوغان إطار الشراكة السياسية والإقتصادية لتصبح أنقرة جزءاً من الأحداث التي تعصف بالمنطقة وكان مشروع إسقاط النظام السوري بمثابة الحلم الذي يراود "أردوغان" ليل نهار.
شهدت العلاقة بين تركيا وسورية في عهد حزب العدالة والتنمية تقدماً ملحوظاً خصوصاً عقب زيارة الرئيس بشار الأسد لأنقرة عام 2004، هذا التقدم الذي توّج بمجموعة من الإتفاقيات بين البلدين سرعان ما استحال عداوةً مطلقة بينهما اثر انتقال السلطة في تركيا إلى موقع الخصم اللدود للنظام السوري عقب بداية الأزمة عام 2011، حيث بات شعار "العدالة والتنمية" في أكثر خطابات قياداته وعلى رأسهم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان: فليسقط الأسد.
وقوف السلطات التركية إلى جانب ما يسمى المعارضة السورية، لم يكن فقط ضمن إطار الدعم السياسي بل شمله الدعم العسكري المباشر من خلال ايواء عناصر مما يسمى الجيش السوري الحر وتأمين الدعم العسكري واللوجستي لعناصره، إضافةً إلى انتشار عدد كبير من مخيمات اللاجئين السوريين على امتداد المناطق الحدودية، التي شكلت بمعظمها مجرد غطاء لمخيمات تدريب لعناصر المجموعات المسلحة التي تقوم بعمليات إرهابية في الداخل السوري.
السياسة العدائية التي انتهجها اردوغان ضد سوريا ودعمه للإرهابيين انعكس ايضا على تركيا من خلال خسارتها مقعد العضوية غير الدائمة بمجلس الأمن وهذا ليس سوى رسالة تحذير لأردوغان لأنه لن يستطيع الاستمرار في اللعبة المزدوجة بأن يدعي الديمقراطية ثم يدعم التنظيمات الإرهابية وهذا مؤشر قوي على فشل سياسته في سورية والعراق بل ويرتقي إلى مستوى الفضيحة لحصول تركيا على ستين صوتا فقط. هذه الخسارة لم يتعظ اردوغان منها ومازال مستمراً في سياسته العدائية تجاه سورية والعراق ودعمه للتنظيمات الإرهابية وهو مستعد لفعل أي شيء ليحقق أحلامه ولهذا فإن تحركه ينطلق من عجزه عن التحدي المباشر ومعاركه إلى الآن ليست سوى عبر الوسطاء من التنظيمات الإرهابية التي يدعمها في مقدمتها داعش وهو لايزال يضع شروطا للدخول في التحالف الدولي لمحاربة داعش ومنها إقامة منطقة عازلة ومهاجمة النظام السوري إضافة إلى رفضه جميع الدعوات لتسليح مقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي الذين يواجهون داعش في عين العرب بحجة أنهم إرهابيون ويهددون الأمن القومي التركي.
حالة الجنون التي يقود بها أردوغان تركيا أوصلته إلى حالة شبه انهيار في علاقاته الاقليمية والدولية وليس هذا فحسب وإنما انعكست على الداخل التركي نفسه نظرا لزيادة أعداد المؤيدين للتنظيمات الارهابية والبيئة الحاضنة لها داخل تركيا وهذا يعد قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، بينما لم يعد لديه من المؤيدين إقليميا وحتى دوليا سوى إسرائيل.
لم تصنف حكومة أردوغان المصاب بداء جنون العظمة جماعات داعش والنصرة في خانة الإرهاب إلا قبل فترة قليلة وذلك عندما لاح خطر هذه الجماعات على الداخل التركي من جهة، وبسبب حصول أزمة صامتة بين الإدارة الأمريكية والحكومة التركية من جهة أخرى،السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا دعمت تركيا هذه الجماعات؟ في الواقع، ثمة سببان رئيسان لهذا الدعم.
الأول: إن تركيا ومنذ انطلاقة الأزمة السورية سعت إلى استخدام هذه الجماعات كأداة لإسقاط النظام السوري، وعليه جعلت من أراضيها مأوى وممراً لها، كما تورطت الاستخبارات التركية في دعمها من خلال التغاضي عن قدوم المقاتلين من مختلف مناطق العالم للدخول إلى سوريا عبر الأراضي التركية وما ترتب على ذلك من إيصال شحنات أسلحة لها، بل إن التقارير التركية تشير إلى وجود قرابة ثلاثة آلاف تركي منخرطين في تنظيم داعش وحده حسب صحيفة مللييت التركية.
الثاني: محاربة أكراد سوريا من خلال هذه الجماعات، إذ أن تركيا التي تعيش فوبيا القضية الكردية في الداخل والخارج وجدت نفسها مع إقليم كردي في شمال شرق سوريا يديره حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي القريب من حزب العمال الكردستاني بزعامة عبد الله أوجلان المعتقل في سجن إيمرالي منذ نحو 15 عاماً، إذ كشفت معارك رأس العين وتل أبيض بين المقاتلين الأكراد وتنظيمي داعش وجبهة النصرة عن تورط تركي مباشر في هذه المعارك، حيث قدمت العديد من المجموعات المسلحة من داخل الأراضي التركية وسط قصف مدفعي تركي للقوات الكردية التي أسرت أشخاص كانوا يحملون الجنسية ويحاربون في صفوف النصرة وداعش.
لقد بات معلوماً للجميع أن تركيا غارقة في المستنقع السوري حتى النخاع، فأردوغان الذي كان حليفا مقربا للأسد تحول إلى داعم من داعمي الصف الأول للجماعات المقاتلة للنظام، ليس الدعم بالسلاح فقط بل بتسهيل دخول المقاتلين إلى البلاد الأمر الذي دفع أحد المحللين الأوروبيين إلى حد القول إنه ليس «هنالك أسهل من الدخول إلى سوريا» عن طريق تركيا طبعا.
أخطأ "العثمانيون الجدد"، التسمية التي تطلق على أعضاء حزب العدالة والتنمية، في حساباتهم عندما دخلوا اللعبة مع امريكا ضد سوريا والعراق لدرجة اعترافهم الرسمي بدعمهم تنظيم /داعش/ الارهابي، كما أن توجه الحكومة التركية نحو شبه القارة الهندية تأتي بسبب سلسلة الاخفاقات التي منيت بها في سوريا والمنطقة وتشكل محاولة للخروج من عزلتها في المنطقة من خلال ايجاد مكانة شكلية وصورية لها.
ان عدم سقوط النظام السوري بعد مرورأربعة أعوام على اندلاع الأحداث، شكّل مأزقاً جدياً لأنقرة واضعاً سياستها الخارجية أمام السؤال الصعب: هل بتنا جزءاً من مغامرة فاشلة أو أزمة طويلة المدى؟ فقد أظهرت تصريحات المسؤولين الأتراك في بداية الأزمة ثقةً كبيرة بسقوط سريع للأسد، لكن يبدو أن الموقفين الروسي والايراني من الأحداث السورية إضافةً إلى القدرات العسكرية للنظام وما يحمله تطور الأحداث في سورية من أهمية على المستوى الإقليمي، كل ذلك كان خارج حسابات الأتراك، الذين بدؤا يعيشون تبعات الأزمة على أرضهم.
ما يمكن استخلاصه أن"العثمانيين الجدد" خسروا مشروعهم في دعم حكومات الاخوان في مصر وتونس، واليمن دون ان تكسب السعودية ودول الخليج الفارسي مثلما خسرت ايران والعراق وروسيا، كما أن البيت الداخلي لحزب حرية العدالة والتنمية بدأ يتهاوى، وشيء من الكذب والفساد سينهي الحكم الحالي في انقرة ويحول أردوغان من "أسطورة الديمقراطية والقفزة الاقتصادية" الى "أسطورة الهمجية والروح الداعشية".