الوقت- يوم دخلت داعش الموصل لم يتوقع أشد المتفائلين، وكانوا قلة، أن تنقلب الحال لما هي عليه اليوم. كان التشاؤم متعدد المصادر، هول المفاجأة، سطوة داعش، المناخ العام في المشرق وثم التصورات السلبية السائدة عن التجربة السياسية العراقية. منذ اللحظات الأولى للحدث، إستذكر أصحاب القرار في "محور المقاومة" التجربة السورية الماثلة والمستمرة والتي كان للتردد فيها أثمانه الباهظة، فيما إستذكر غالبية العراقيين حقبة صدام الدامية الإجرامية وهم يشاهدون ضباط البعث وإستخبارات صدام وحرسه الجمهوري تنهض ملتحيةً بعنوان "التهميش المذهبي"، يا للسخرية.
الإيرانيون وقرار الحسم
أدرك الإيرانيون خلال الساعات الأولى أنهم لا يمتلكون رفاهية التردد، لا مجال سوى مقابلة الصدمة بما يفوقها. في ظل ما يجر في سوريا، كان يعول على العراق أن يسد الفراغ السوري على الأقل، ولذا كان يمكن لإنجرار العراق لمصير مشابه لسوريا أن يكون بمثابة الضربة القاضية في كلا البلدين. ظهور قائد فيلق القدس قاسم سليماني ليس من باب الإستعراض، لا يُعرف عن الرجل ذلك، بل من باب الإعلان عن قرار إيراني ناجز، لا مساومة في العراق، الحسم هو الخيار الوحيد. إمتلك الإيرانيون كل عناصر الإستراتيجية المضادة لدحر داعش: النواة العراقية ( عصائب أهل الحق، كتائب حزب الله، منظمة بدر على سبيل المثال), الخبرة والكفاءة في إدارة حرب المدن والعصابات، البنية التحتية لتدريب عشرات الالاف بشكل متواز، التماس الجغرافي للدفع بوحدات خاصة من الحرس الثوري إن إقتضت الضرورة، والآهم من كل ذلك الرغبة والقرار العراقي بقبول التحدي والإنخراط بشكل جدي في المواجهة.
دمرت التجربة الصدامية روح الجماعة العراقية، تلك الأكثرية التي تعرضت لحملة إبادة وإجرام وتنكيل لا توصف. عانت هذه الأكثرية من ترهل الثقة بالذات، حكمها التشاؤم و"القدرية"، فإنكسرت فيها رغبة النهوض والمقاومة الى حد بعيد لا سيما بعد تجربة "الإنتفاضة الشعبانية" اوائل التسعينات. يمكن مثلاً ملاحظة تضخم المرثاة والفجيعة في الإحياء العراقي لعاشوراء.لاحقاً حصل تحول جزئي أثناء مقاومة الإحتلال الأميركي، بفعل دور إيران وحزب الله في إدلجة نواة صغيرة نسبياً وتأطيرها في مقاومة الإحتلال الأميركي، ولكن ذلك لم يكن كافياً لإحداث تحول جذري في الوعي الجمعي خصوصاُ مع إنتكاسة "جيش المهدي" بوجه الأميركيين. ثم كانت تجربة النخبة السياسية تكريساً للمأزق، إذ أنها خضعت لشهوة السلطة والحكم، لم تجر محاولات جدية سواء لإعادة بناء الهوية أو الذات أو الدولة أو الدور، أو لتشكيل أديولوجية، ولا لبناء الثقة والتفاؤل بالواقع الجديد، بل حصل العكس تماماً.
العراقيون ينفضون الرماد
مثلت فتوى المرجعية بالتطوع للقتال، تعبيراً عن حجم المأزق والفراغ. في حالة طبيعة كان يجب أن يُنظر لهذه الفتوى بإستغراب بإعتبارها لزوم ما لا يلزم، كان يُفترض أن يتوجه العراقيون طوعاً للسلاح، إلا أن المرجعية تدخلت لأنها الأدرى "بشعاب مكة" وحالها. أولى النتائج، هي إدراك العراقيين أن الركون والسكون يعني القتل ولو بعد حين، إستثيرت غريزة البقاء. تالياً، إنهار العائق النفسي – السياسي للتعاون والتحالف مع إيران، هي لحظة مثلى لبناء الثقة والإنتقال نحو بدايات شراكة إستراتيجية وإنفتاح أفق تأخر كثيراً. ثم تفاعل هذان الحدثان وأخرجا "القوة العراقية" من قمقمها فجرى تثبيت خطوط الدفاع، ثم القضم وصولاً لبدء التحولات الكبرى من أميرلي، فجرف الصخر وصولاً الى بيجي. هي لحظة مؤسسة في الشخصية العراقية، داعش التي علت وإستعلت يكسرها مستضعفو العراق، وما يولده ذلك من شحنات إحياء في الذات العراقية من فخر وفاعلية وحافزية وإيمان بالذات وإنخراط في مشروع تحرري يتجاوز العراق نحو المنطقة.
أدى إجتياح داعش لنتائج معاكسة يمكن إختصارها بمدى الإندماج العراقي في مشروع محور المقاومة الذي يشهد تقدماً ملحوظاً من المستويات النفسية الى الأمن والسياسة والإيديولجية وصولاً الى الإستراتيجية. العراقيون إنتقلوا للجانب الحركي من التاريخ، النخبة العراقية أمام فرصة لتجديد نفسها، الدور الإقليمي العراقي أكثر تبلوراً، فيما الشراكة الإيرانية/ الحزب اللهية – العراقية أمام فرص تاريخية. هذا التكامل والإندماج العراقي في محور المقاومة حاجة ماسة لكلا الطرفين، حاجة لمحور المقاومة في ظل ضغوط الحرب في سوريا، وحاجة للعراقيين في ظل هذا المحيط المعادي الذي يجهد لإحياء الصدامية.
الفرص المثلى تولد من التحديات الكبرى، كما نرى في العراق. أدرك العراقيون اليوم أن "الزمن" لا يرحم، يجب إستغلال كل لحظة لبناء مشروع طموح وقوة تحميه، وإلا ستكون ضحية مشاريع الآخرين، وأدركوا أن كلفة المواجهة أقل بكثير من السكون والدعة. يمتلك العراقيون كل العناصر اللازمة للمشاركة في صياغة مستقبل الإقليم، مصير المشرق يُرسم في دمشق وبغداد، والمشرق يملك أن يرسم ملامح الشرق الأوسط - في ما بعد الهيمنة.
حسام مطر/ العهد
الإيرانيون وقرار الحسم
أدرك الإيرانيون خلال الساعات الأولى أنهم لا يمتلكون رفاهية التردد، لا مجال سوى مقابلة الصدمة بما يفوقها. في ظل ما يجر في سوريا، كان يعول على العراق أن يسد الفراغ السوري على الأقل، ولذا كان يمكن لإنجرار العراق لمصير مشابه لسوريا أن يكون بمثابة الضربة القاضية في كلا البلدين. ظهور قائد فيلق القدس قاسم سليماني ليس من باب الإستعراض، لا يُعرف عن الرجل ذلك، بل من باب الإعلان عن قرار إيراني ناجز، لا مساومة في العراق، الحسم هو الخيار الوحيد. إمتلك الإيرانيون كل عناصر الإستراتيجية المضادة لدحر داعش: النواة العراقية ( عصائب أهل الحق، كتائب حزب الله، منظمة بدر على سبيل المثال), الخبرة والكفاءة في إدارة حرب المدن والعصابات، البنية التحتية لتدريب عشرات الالاف بشكل متواز، التماس الجغرافي للدفع بوحدات خاصة من الحرس الثوري إن إقتضت الضرورة، والآهم من كل ذلك الرغبة والقرار العراقي بقبول التحدي والإنخراط بشكل جدي في المواجهة.
دمرت التجربة الصدامية روح الجماعة العراقية، تلك الأكثرية التي تعرضت لحملة إبادة وإجرام وتنكيل لا توصف. عانت هذه الأكثرية من ترهل الثقة بالذات، حكمها التشاؤم و"القدرية"، فإنكسرت فيها رغبة النهوض والمقاومة الى حد بعيد لا سيما بعد تجربة "الإنتفاضة الشعبانية" اوائل التسعينات. يمكن مثلاً ملاحظة تضخم المرثاة والفجيعة في الإحياء العراقي لعاشوراء.لاحقاً حصل تحول جزئي أثناء مقاومة الإحتلال الأميركي، بفعل دور إيران وحزب الله في إدلجة نواة صغيرة نسبياً وتأطيرها في مقاومة الإحتلال الأميركي، ولكن ذلك لم يكن كافياً لإحداث تحول جذري في الوعي الجمعي خصوصاُ مع إنتكاسة "جيش المهدي" بوجه الأميركيين. ثم كانت تجربة النخبة السياسية تكريساً للمأزق، إذ أنها خضعت لشهوة السلطة والحكم، لم تجر محاولات جدية سواء لإعادة بناء الهوية أو الذات أو الدولة أو الدور، أو لتشكيل أديولوجية، ولا لبناء الثقة والتفاؤل بالواقع الجديد، بل حصل العكس تماماً.
العراقيون ينفضون الرماد
مثلت فتوى المرجعية بالتطوع للقتال، تعبيراً عن حجم المأزق والفراغ. في حالة طبيعة كان يجب أن يُنظر لهذه الفتوى بإستغراب بإعتبارها لزوم ما لا يلزم، كان يُفترض أن يتوجه العراقيون طوعاً للسلاح، إلا أن المرجعية تدخلت لأنها الأدرى "بشعاب مكة" وحالها. أولى النتائج، هي إدراك العراقيين أن الركون والسكون يعني القتل ولو بعد حين، إستثيرت غريزة البقاء. تالياً، إنهار العائق النفسي – السياسي للتعاون والتحالف مع إيران، هي لحظة مثلى لبناء الثقة والإنتقال نحو بدايات شراكة إستراتيجية وإنفتاح أفق تأخر كثيراً. ثم تفاعل هذان الحدثان وأخرجا "القوة العراقية" من قمقمها فجرى تثبيت خطوط الدفاع، ثم القضم وصولاً لبدء التحولات الكبرى من أميرلي، فجرف الصخر وصولاً الى بيجي. هي لحظة مؤسسة في الشخصية العراقية، داعش التي علت وإستعلت يكسرها مستضعفو العراق، وما يولده ذلك من شحنات إحياء في الذات العراقية من فخر وفاعلية وحافزية وإيمان بالذات وإنخراط في مشروع تحرري يتجاوز العراق نحو المنطقة.
أدى إجتياح داعش لنتائج معاكسة يمكن إختصارها بمدى الإندماج العراقي في مشروع محور المقاومة الذي يشهد تقدماً ملحوظاً من المستويات النفسية الى الأمن والسياسة والإيديولجية وصولاً الى الإستراتيجية. العراقيون إنتقلوا للجانب الحركي من التاريخ، النخبة العراقية أمام فرصة لتجديد نفسها، الدور الإقليمي العراقي أكثر تبلوراً، فيما الشراكة الإيرانية/ الحزب اللهية – العراقية أمام فرص تاريخية. هذا التكامل والإندماج العراقي في محور المقاومة حاجة ماسة لكلا الطرفين، حاجة لمحور المقاومة في ظل ضغوط الحرب في سوريا، وحاجة للعراقيين في ظل هذا المحيط المعادي الذي يجهد لإحياء الصدامية.
الفرص المثلى تولد من التحديات الكبرى، كما نرى في العراق. أدرك العراقيون اليوم أن "الزمن" لا يرحم، يجب إستغلال كل لحظة لبناء مشروع طموح وقوة تحميه، وإلا ستكون ضحية مشاريع الآخرين، وأدركوا أن كلفة المواجهة أقل بكثير من السكون والدعة. يمتلك العراقيون كل العناصر اللازمة للمشاركة في صياغة مستقبل الإقليم، مصير المشرق يُرسم في دمشق وبغداد، والمشرق يملك أن يرسم ملامح الشرق الأوسط - في ما بعد الهيمنة.
حسام مطر/ العهد