الوقت- في خضم الصراع المستمر بين الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، برزت قضية الأسرى كواحدة من أهم المحاور التي تعكس الفارق الجوهري بين تعامل الطرفين مع من يقعون في قبضتهم.
جاءت تصريحات الأسرى الإسرائيليين المحررين من قبضة كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، لتكشف صورة غير متوقعة عن معاملتهم، حيث أعربوا عن امتنانهم للمقاومة على توفير الغذاء والدواء وضمان أمنهم، في مقابل توجيه انتقادات لاذعة لحكومتهم التي وصفوها بـ"الفاشلة".
هذا الموقف يثير تساؤلات جوهرية حول الفروق الأخلاقية في التعامل مع الأسرى بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، ويكشف عن ازدواجية المعايير الدولية في التعامل مع هذه القضية، فبينما تواصل "إسرائيل" انتهاكاتها بحق الأسرى الفلسطينيين، تحرص المقاومة على معاملة الأسرى الإسرائيليين بإنسانية رغم الظروف القاسية في غزة.
أسباب رضا الأسرى الإسرائيليين وشكرهم لكتائب القسام
تجلى امتنان الأسرى الإسرائيليين الثلاثة، أوهاد بن عامي، وإيلي شعربي، وأور ليفي، في تصريحاتهم العلنية بعد الإفراج عنهم، حيث أكدوا أنهم بقوا على قيد الحياة بفضل الرعاية التي تلقوها من كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، هذا الامتنان لم يكن مجرد مجاملة سياسية، بل جاء كنتيجة مباشرة لتجربة الأسر التي مرّوا بها، والتي كشفت عن معاملة إنسانية غير متوقعة من قبل الطرف الذي تعتبره "إسرائيل" عدوًا.
أكد الأسرى أن كتائب القسام قدمت لهم الطعام، الماء، والدواء بشكل مستمر طوال فترة احتجازهم، رغم الظروف القاسية التي يعيشها قطاع غزة نتيجة الحصار والعدوان الإسرائيلي المستمر، ومن اللافت أن أحد الأسرى، أور ليفي، أشار بشكل خاص إلى تلقيه رعاية طبية عندما كان مصابًا، وهو أمر يعكس التزام كتائب القسام بتوفير الحد الأدنى من الرعاية الصحية لأسرى الحرب لديها، وهو التزام يندر أن يُرى في معاملة "إسرائيل" للأسرى الفلسطينيين.
على الجانب الآخر، عبّر الأسرى عن غضبهم الشديد تجاه حكومتهم، واصفين إياها بـ"الفاشلة"، ليس فقط لأنها لم تنجح في تحريرهم من خلال الضغط العسكري، ولكن لأنها فشلت أيضًا في إدارة الأزمة منذ بدايتها، متسببةً في معاناة مزدوجة لشعبها وللأسرى في آن واحد.
الفرق في العناية بالأسرى بين كتائب القسام و"إسرائيل"
يمثل الفرق في معاملة الأسرى بين كتائب القسام و"إسرائيل" نقطة مركزية، فمن جهة، نجد أن كتائب القسام، رغم الحصار الخانق الذي تعاني منه غزة، حرصت على تلبية احتياجات الأسرى، وضمان بقائهم في ظروف معيشية مقبولة، بما في ذلك تقديم الرعاية الصحية والغذائية لهم. وفي المقابل، تعاني السجون الإسرائيلية من انتهاكات جسيمة لحقوق الأسرى الفلسطينيين، حيث يتعرضون للتعذيب الجسدي والنفسي، والتضييق على أبسط حقوقهم الإنسانية، ومنعهم من تلقي العلاج المناسب، وهو ما أدى إلى استشهاد العديد من الأسرى نتيجة الإهمال الطبي المتعمد.
إن معاملة كتائب القسام لأسرى الحرب تتوافق مع المبادئ الأساسية لاتفاقيات جنيف، حيث لم يتم تسجيل أي تقارير عن تعذيب الأسرى أو معاملتهم بشكل غير إنساني، بينما تقوم "إسرائيل" بإجراءات انتقامية ضد الأسرى الفلسطينيين، من عزل انفرادي إلى حرمان من الزيارات العائلية، وحتى استخدامهم كورقة ضغط في المفاوضات.
نظرة كل من حماس و"إسرائيل" للأسرى: اختلاف جوهري في العقيدة
يتضح من هذه التجربة أن نظرة حماس للأسرى الإسرائيليين تختلف جذريًا عن نظرة "إسرائيل" للأسرى الفلسطينيين، بالنسبة لحماس، يُنظر إلى الأسرى الإسرائيليين على أنهم ورقة تفاوضية ذات قيمة، ولكنها لا تُستخدم بطريقة تعسفية أو انتقامية، ويتم توفير الحد الأدنى من الرعاية لهم، وضمان عدم تعريضهم للإهانة الجسدية أو النفسية، الأمر الذي يعكس التزامًا بالمعايير الأخلاقية والدينية التي تنطلق منها الحركة.
في المقابل، تنتهج "إسرائيل" سياسة قمعية تجاه الأسرى الفلسطينيين، حيث يتم اعتبارهم "إرهابيين" بلا حقوق، حتى لو كانوا أطفالًا أو نساءً أو مدنيين تم اعتقالهم دون تهم واضحة، وتبرز هذه السياسة في استخدام وسائل التعذيب، وحرمان الأسرى من الحقوق الأساسية، بالإضافة إلى سن قوانين عنصرية تسهل اعتقالهم دون محاكمة عادلة.
ازدواجية المعايير الدولية: كيف يتعامل العالم مع الأسرى الفلسطينيين والإسرائيليين؟
أحد أبرز الجوانب التي كشفها هذا الحدث هو النفاق الدولي في التعامل مع قضية الأسرى، ففي حين أن المنظمات الحقوقية والإعلام العالمي أثارت ضجة كبيرة حول وضع الأسرى الإسرائيليين، لم يتحرك المجتمع الدولي عندما استشهد عشرات الأسرى الفلسطينيين نتيجة التعذيب والإهمال الطبي في السجون الإسرائيلية. لم يُفتح أي تحقيق دولي في الانتهاكات الموثقة التي يعاني منها الفلسطينيون، بينما اعتُبرت معاناة ثلاثة أسرى إسرائيليين فقدوا بضعة كيلوغرامات من وزنهم أمرًا يستحق الاستنفار الدولي.
هذا التحيّز الفاضح يظهر جليًا في تعامل الإعلام العالمي مع الصورتين المختلفتين: صورة الأسرى الإسرائيليين وهم يعبرون عن امتنانهم لكتائب القسام، مقابل صورة الأسرى الفلسطينيين الذين يخرجون من المعتقلات مشوهين نفسيًا وجسديًا بعد سنوات من الانتهاكات.
انعكاسات الحدث على الداخل الإسرائيلي ومستقبل المفاوضات
أحدثت تصريحات الأسرى الإسرائيليين صدمة كبيرة داخل "إسرائيل"، حيث لم يكن من المتوقع أن يوجّهوا الشكر لحماس بدلاً من حكومتهم، هذا الأمر زاد من الضغوط على حكومة نتنياهو، التي تتعرض بالفعل لانتقادات حادة بسبب سوء إدارتها للأزمة، حيث يطالب الأسرى المحررون باستمرار الصفقة في مراحلها الثانية والثالثة، في إشارة واضحة إلى أن الحرب لم تكن السبيل لإطلاق سراحهم، بل على العكس، كانت سببًا في تأخير ذلك.
من جهة أخرى، فإن هذه التطورات قد تدفع "إسرائيل" إلى إعادة النظر في سياستها تجاه مفاوضات تبادل الأسرى، وخاصة في ظل الغضب الشعبي الداخلي، وتصاعد الدعوات لإنهاء الحرب بدلاً من الاستمرار في سياسة التصعيد العسكري الفاشلة.
تُسلط هذه القضية الضوء على معركة أخرى تدور بالتوازي مع المعركة العسكرية، وهي معركة الأخلاق والقيم، في حين أن "إسرائيل" تسوّق نفسها "كدولة ديمقراطية متحضرة"، فإن ممارساتها تجاه الأسرى الفلسطينيين تكشف زيف هذا الادعاء، في المقابل، رغم شيطنة الإعلام الغربي لحركة حماس، فإن تصرفها تجاه الأسرى الإسرائيليين يعكس التزامًا بمبادئ إنسانية، وهو ما ظهر بوضوح في شهادات الأسرى المحررين أنفسهم.
هذا الحدث ليس مجرد إفراج عن أسرى، بل هو شهادة على طبيعة الصراع، حيث تتضح الفروقات الجوهرية بين من يسعى للحفاظ على الحياة حتى في ظل الحرب، ومن يمارس القمع والإبادة دون رادع، وفي الختام، تبقى معاملة الأسرى معيارًا حقيقيًا لمدى التزام الأطراف المتصارعة بالقيم الإنسانية، وهو ما كشفته هذه القضية بشكل صارخ.