ما تشهده الیوم الحالة الفلسطینیة الغاضبة والساخطة من کل ما یحاک ضد الشعب الفلسطینی والأراضی والمقدسات الفلسطینیة مؤشر علی أنها أمام انتفاضة وثورة حقیقیة مستمرة لم تتوقف لسببین: أولهما أن الاحتلال مستمر فی عدوانه علی الفلسطینیین وطلیق الید فی الجرائم المتواصلة ضد المقدسات دون أن یحرک أحد ساکنًا، ثانیهما أن موجة الغضب العارمة فی صفوف الفلسطینیین لم تکن ولیدة اللحظة، وجاءت نتیجة تراکم الاعتداءات علی کل ما هو فلسطینی.
لقد أشرت في مقالات سابقة لي إلى حتمية انفجار صمام الأمان الفلسطيني ردّاً على انتهاكات حرمة المسجد الأقصى، وإحراق المساجد والمزارع، وقتل المقدسيين على يد المستوطنين المتطرفين، فجاءت عملية القدس الاستشهادية الثلاثاء الماضي، وقد سبقتها عمليات استشهادية قوية ونوعية، وبغض النظر عن كل الحسابات السياسية والتقديرات المختلفة والاجتهادات؛ إن التظاهرات القوية التي يتخللها رشق الحجارة والزجاجات الحارقة والمواجهات مع الشرطة لم تتوقف منذ قتل الفتى محمد أبو خضير وحرق جثته في بداية تموز الماضي، حتى شنق المقدسي الشهيد يوسف الرموني قبل عدة أيام.
كل هذه الأفعال العدائية المتطرفة خلقت حالة من القهر، وولدت الكثير من الاستفزاز، ولابد أن كل العالم يدرك مدى الظلم الواقع على المقدسيين من قبل المستوطنين وقوات الاحتلال، معتقدين أن عمليات القتل والمجازر يمكن أن تخمد روح شعب أو تلغي إرادته.
حتى الصحف العبرية تشير إلى بدهية قطعية، وهي أن المواجهات والتصعيد واستخدام الآلة العسكرية الإسرائيلية لن يترتب عليها إلا المزيد من العمليات الاستشهادية، ولا فرق، إذا كان الاحتلال يسمي هذه العمليات عمليات «انتحارية» أو يطلق عليها أية نعوت أخرى؛ فإن ذلك لا يغير من النتيجة، وهي أن حالة اليأس والإحباط، وحالة القهر والإذلال، وتمادي قوات الاحتلال والمستوطنين في ممارسة الضغوط على الشعب الفلسطيني؛ كل ذلك لن يؤدي إلا إلى المزيد من المقاومة.
المشكلة تبدأ عند عقيدة الانتقام العنصرية والحالة الثأرية المتأصلة عند الجماعات المتطرفة من المستوطنين، ومحاولتهم إلغاء وجود الشعب الفلسطيني وحرمانه كل حقوقه ووأد أحلامه، وهذه الممارسات هي الحاضنة الطبيعية للعنف.
ففي أعقاب عملية القدس دعا سياسيون من اليمين - وعلى رأسهم نتنياهو- إلى تسهيل تسليح المتطرفين، وفي تصريح سابق كرر نتنياهو القول العليل: «إن القدس الموحدة كانت وستبقى عاصمة (إسرائيل) إلى الأبد»، ووعد بإعادة الهدوء والأمن إلى القدس بـ «الرد الأكثر حدة وصرامة وعنفا باستعمال القبضة الحديدية»، وهو –لا شك- ما سيولد «العنف المضاد».
إن الاحتلال مصمم على استمرار «حرب الاستنزاف»، وفي الوقت نفسه تكون نتائج عكسية، وما حدث كان مثالا على ردة الفعل، ولا يقتصر الأمر على هذا المثال؛ فقد تعودنا سابقا على تكرار ردة الفعل، التي هي في الأغلب عمليات نوعية وأكبر مما يتخيل الاحتلال؛ فالعنف لا يولد إلا العنف والدم لا يجر إلا الدم.
إن اتساع رقعة المقاومة في القدس لم يحدث من فراغ، ولن يتوقف أمام تهديدات قادة الاحتلال، وأسبابه معروفة، وهي: انهيار وسقوط المسيرة السياسية، والتنسيق الأمني، والدعوات المتعاظمة لتغيير الوضع الجغرافي والديمغرافي، والتهويد، والحفريات، وتغيير المعالم العربية لمدينة القدس، إضافة إلى الإهمال المستمر للأحياء الفلسطينية في شرقي القدس، والتفرقة العنصرية من جهة، وتشجيع حكومة الاحتلال على التوسع الاستيطاني في قلب تلك الأحياء من جهة أخرى، وعزلها بالجدار؛ كل هذه تخلق المستنقع الذي تنبت فيه المقاومة ردّاً على عنف الاحتلال، إن تجاهل جذور المشكلة والتركيز على إنفاذ القوانين الجائرة بحق المقدسيين، وتضييق الخناق عليهم بهدف تهجيرهم وإفراغ المدينة المقدسة منهم لتصبح يهودية بحتة؛ لن يحل المشكلة بل من شأنه أن يفاقمها.
د. أيمن أبو ناهية - الوفاق