الوقت - تطرح القدرات المتطوره لوسائل الاعلام و احتكارها اسئله كبرى حول صدقيه هذه الوسائل و الاخلاقيه التي تتمتع بها أو التي ينبغي أن تملكها، و ما يمكن للآخر المتلقي شعوباً و منظمات و افراد القيام به في مواجهه انحرافها و لا اخلاقيتها، ليس من البساطه العثور علي اجوبه لها.
بسبب هذه القدره الفائقه لوسائل الاعلام و السيطره عليها من الدول غير الاسلاميه يصعب القول بامكان المواجهه الشامله علي المستوي الاعلامي بين الاخلاق المتجذره التي يسجدها الاسلام و الدين، و بين النفوذ الصهيوني علي سبيل المثال او نفوذ الاستكبار العالمي و «رسالته» لسببين اثنين: اولاً لان مثل هذا النفوذ تحديداً هو الذي يمسك بمقدرات وسائل الاعلام و يسيطر عليها كما اشرنا. و ثانياً لان الدول الاسلاميه التي من المفترض ان تسترشد بالمباديء و القيم الاخلاقيه في عملها الاعلامي، لم تبلور لغايه الآن عملاً مواحداً علي هذا الصعيد يناسب حجم المواجهه المفترضه و الشامله مع هذا النوع من الخصوم. كما ان التواصل بينها علي مستوي شبكات المعلومات مفقود أو في ادني درجات الضعف. و لا يبدو في الافق القريب ما يشير الي الانتقال الي ما هو افضل من ذلك او الي وجود مثل هذا العمل الموحد علي الرغم من الدعوات و الاجتماعات التي حصلت منذ سنوات علي مستوي وزراء الاعلام و الثقافه في الدول الاسلاميه و دعت الي ايجاد مؤسسات مشتركه، لم تبصر النور حينا، و لم تكن ذات فعاليه حيناً آخر بسبب الخلافات السياسيه بين هذه الدول، و بسبب ضعف او تراخي الموضوع الثقافي فيها الذي يتصل بالهويه و الشخصيه و الانتماء.
و يكفي ان نشير الي المشكله التي واجهت الفيلسوف و المفكر الفرنسي المسلم روجيه غارودي الذي واجه حمله اعلاميه شرسه في بلده لانه تجرأ و طرح علي بساط البحث و التساؤل جديه الارقام المتداوله في الكتابات الصهيونيه حول ضحايا المحرقه النازيه، و حول حقيقه وجود غرف الغاز نفسها، الي تأكيده علي لاشرعيه اسرائيل التوراتيه و القانونيه و الاخلاقيه.
لقد حوصر غارودي و لم تستقبل اي صحيفه ما كان يكتب في تلك الفتره، و لم يدع الي اي لقاء تلفزيوني او اعلامي، و لم تجر معه اي مقابله. و فقدت موظفه في التلفزيون الفرنسي وظيفتها بقرار من الاليزيه لانها تجرأت و دعت غارودي الي الكلام مده اربع دقائق. و يقول غارودي انه اللوبي اليهودي الذي فعل كل ذلك به. و ما قام به غارودي تنطبق عليه سمات العمل الاخلاقي الذي تريده الدعوه الاسلاميه في الكتابه الصادقه و الحقيقيه لتبليغ الرساله. لكن السيطره المضاده علي وسائل الاعلام في فرنسا، و اللامبالاه الاسلاميه علي مستوي العالم الاسلامي المقابله لها، كانت مؤسفه من جهه، و مدعاه لمثل هذا الموضوع، النموذج، من جهه ثانيه ان يكون جديراً بالبحث و التأمل لاستخلاص الدروس.
كما تؤكد علي مستوي آخر تجربه الثوره الاسلاميه في ايران علي امتداد سبعه عشر عاماً من عمرها، معضله تثبيت القيم الاخلاقيه امام قوه و اندفاع السيل الاعلامي الغربي في مضمونه القيمي اللاانساني و اللااخلاقي تجاه ايران و تجاه الاسلام و الظاهره الاسلاميه. فقد كان علي هذه الثوره، بسبب طبيعتها و محتوي ثقافتها الاستقلاليه، ان تواجه الاعلام الغربي من جهه و ان تقدم في الوقت نفسه نموذجاً لسياسات الدوله التي تستند الي التوحيد و الاخلاق في الميادين كافه. من هنا كانت المعضله التي لم تجد حلاً نهائياً لها. فقد وضع الاعلام الغربي هدفاً له هو تشويه صوره النموذج الاسلامي الذي قدمته ايران، متناغماً في ذلك مع السياسه الغربيه التي ارادت ضرب هذا النموذج و حصاره. و لم يتمكن اعلام الثوره الاسلاميه في مقابل ذلك، علي الرغم من كثير من المظالم التي لحقت بهذه الثوره، من تقديم صوره مغايره علي امتداد العالم، عن حقيقه هذه الثوره و عن الظاهره الاسلاميه. قد لا نبالغ منذ البدايه للمواجهه عبر حصار قاس و صارم و حملات تشويه و افتراء لا تزال مستمره، و ان بنسب متفاوته لغايه اليوم. و ربما ادركت الثوره منذ انتصارها صعوبه تحدي الآله الجهنميه الاعلاميه المعاديه. فعمدت الي مواجهه هذا الحصار و التشويه بسبل اكثر بساطه و انسانيه و اقل تكنولوجيه او تقنيه، و ذلك عبر دعوه الصحافيين و الباحثين و المفكرين، خصوصاً اثناء سنوات الحرب مع العراق لزياره ايران. و قد كان الامام الراحل (قده) يشدد دائما علي الوفود الزائره ان تنقل بأمانه و صدق الي شعوبها ما رأته في ايران. و لم يمنع هذا التواصل الانساني المباشر، و الذي يحتاج فيما نظن الي المزيد من التطوير و التنظيم، من تأسيس الصحف و المجلات و الاذاعات الناطقه بلغات الشعوب الاخري و المواجهه اليها. لكن ذلك لم يؤد، مع الاسف الي ايصال محتوي «الرساله» التي تبثها ايران بسبب افتقاد هذه الوسائل الاعلاميه علي الرغم من اتساع اعدادها (عشرات المجلات و الدوريات) لشروط العمل الناجح من حيث المحتوي او التقنيه. و بسبب هواجس هذا الاعلام نفسه في التعبير عن الهموم الداخليه حيناً و عدم الاكتراث بخصوصيه ما يدور في الخارج حيناً آخر. دون ان ننسي بالمقابل قدره التدفق الاعلامي المعادي علي تشويه هذه «الرساله» و الحد من تأثيرها، علي الرغم من البعد الاخلاقي الذي او الصوره او المصطلح.
و اذا تأملنا تجربه كثير من الحركات و الدول الاسلاميه علي الصعيد الاعلامي منذ العقدين الاخيرين امكن ملاحظه حاله غير مستقره في هذا الاعلام علي مستوي المضمون او علي مستوي التطور الفني و التقني المناسب. و كذلك حاله من التجاذب او التناقض بين فعاليه هذا الاعلام من جهه و بين محدوديه آثاره و مقدرته علي التوسع و الانتشار من جهه ثانيه.
و ربما يعود عدم الاستقرار في مضمون الاعلام الاسلامي الي السياسه الدفاعيه التي تطغي علي مجمل نشاط و اهداف هذه الحركات و الدول في مواجهه ضغوط خصومها. هذا الامر يجعل المبادره، بطبيعه الحال في يد القوه المهاجمه.
اما التجاذب في فعاليه تأثير هذا الاعلام فمردّه ببعده الايجابي بالدرجه الاولي، الي استعداد المتلقي، الي قبول هذا النوع من المضمون القيمي و الاخلاقي و حتي السياسي او الثقافي في ظل تفاقم الرغبه في التمكن من العقيده و الدين و الاخلاق، و في ظل ما تقدمه الوسائل الاعلاميه الاخري من مضامين تخدش العقيده او تحرض ضدها او تدعو الي القفز فوق القيم و العادات و الاخلاق. لكن الامر قد يتحول بمرور الوقت، كما كثير من الحالات و التجارب، الي تكرار ممل، لا يقدم جديداً، و الي ماء راكد ينفرّ المقبلين خصوصاً عندما يتخلف عن متابعه او مناقشه ما يدور حوله علي المستويات الفكريه و الثقافيه و السياسيه. اما في البعد السلبي لهذا التجاذب فتكمن المشكله في عجز الاعلام الاسلامي عن النفاذ الي الاوساط الاخري غير المؤيده لتوجهاته او غير الملتزمه بخطه و فكره. و هذا ينبغي ان يطرح بشكل جدي علي بساط البحث، موقع «الآخر» في مضمون الرساله الاعلاميه التي يبثها الاسلاميون. و تمكن مشكلات هذا الجانب في النقاط الرئيسيه التاليه:
ـ تضخيم و تجميل صوره الذات بما ينزع عنها كل السلبيات المحتمله. و بما يتجاوز عمليا الواقعيه و الاخلاقيه.
ـ تضخيم سيئات «الخصم» و نقاط ضعفه بما يوحي دائماً بدنو انهياره و هزيمته.
ـ التشديد علي الجوانب الايديولوجيه و الدينيه و اهمال الشروط العلميه او الفنيه للاعلام المعاصر.
ـ استخدام مفاهيم و مصطلحات و تقليد برامج «غير اسلاميه» نظراً لشيوع هذه المفاهيم و نجاح تلك البرامج في وسائل الاعلام «غير الاسلاميه».
ـ عدم التمييز بين من تتوجه اليهم «الرساله» الاعلاميه. بحيث يختلط محتوي هذه الرساله بين ما هو موجه للمؤمنين و المتدينين و بين ما يراد ايصاله الي «الآخر» غير المسلم او غير المتدين. اي ان البعد السلبي في فعاليه «الاعلام الاسلامي» يكمن في الهواجس الثلاثه التاليه:
ـ التعبير عن الهموم الداخليه.
ـ عدم الاكتراث بما يدور في الخارج. او رؤيه هذا الخارج بمنظور القوانين او التوازنات التي تحكم الداخل.
ـ اثبات الذات و الاعلان عن الوجود في مواجهه قوي منافسه اخري اسلاميه او سياسيه.
و يمكن ان نراجع علي سبيل المثال حول الهواجس و المشكلات السابقه تجربه الكثير من الصحف و وسائل الاعلام الاسلاميه في بلدان عربيه و اسلاميه عده و بموازاه ذلك كله ثمه ملاحظات لابد من الاشاره اليها، في نهايه هذه الورقه:
1- لقد عجزت وسائل الاعلام العالميه علي الرغم من قدره آلتها الجهنميه عن تذويب شخصيات الشعوب و تدمير اخلاقياتها. و قد بيّنت التجربه علي امتداد العقود الاخيره، في ذوره التقدم التكنولوجي و التقني، و «صناعه العقول» و في ذوره الاجتياح الثقافي و السياسي الغربي للعالم، كيف حافظ الكثير من الشعوب علي نواه شخصيتها الاخلاقيه و الدينيه و التقليديه، من الصين و اليابان الي افريقيا و الدول العربيه و الاسلاميه. كما ان هناك تغير علي هذا المستوي حتي في الدول المتقدمه صناعياً و تكنولوجياً في الغرب نفسه. فقد تضاءل الايمان في مقدره العلم و التحليل العقلي و التكنولوجيا علي حل مشاكل الانسانيه كافه.
و ربما تفسر الظاهره الاسلاميه بشكل رئيسي، و كذلك ظاهره الاديان الاخري، و حركات العوده الي الطبيعه في دول العالم المختلفه، حجم الرغبه في العوده الي الذات و الي ما هو «انساني» و مدي الاتجاه الي التفلت من صنميه الاعلام الغربي و لا اخلاقيه الواسعه.
2- ان القيم الدينيه و الاخلاقيه الراسخه عند الشعوب الاسلاميه تحديداً، سمحت بتشكيل ما يمكن تسميته «بنظام المناعه» امام المحتوي المخالف لهذه القيم في وسائل الاعلام الغربيه. و يرتبط هذا «النظام» بشبكه من العلاقات علي المستويات الفرديه و الجماعيه و علي مستوي المؤسسات المحليه كدور العباده و المؤسسات التعليميه و البني العائليه. و قد لعبت هذه العلاقات و تلك البني دوراً هاماً في المحافظه علي الهويه و الاخلاق و الثقافه و القيم الاسلاميه. و هذه القيم و العلاقات تفسر علي سبيل المثال محدوديه انتشار ثقافه تحديد النسل او تنظيم الاسره في كثير من بلدان العالمي الاسلامي. و محدوديه انتشار ثقافه العلاقات الحره بين الجنسين، او ثقافه حريه الابناء في مواجهه الوالدين.
و يمكن في هذا الاطار ايضاً دراسه التجارب الاعلاميه الناحجه في بعض ما قدمته السينما الايرانيه و السينما المصريه علي سبيل المثال في مضامين لا تخدش الجوانب الاخلاقيه و لا تكرر سينما الجنس او العنف. و تستوفي الشروط الفنيه المناسبه و تحقق في الوقت نفسه حضوراً عالمياً بارزاً.
ان استحاله المواجهه الشامله مع الاعلام الغربي، لا ينبغي ان تحجب امكانيات تعزيز «نظام المناعه» و مؤسساته العائليه و التربويه و العباديه و الاجتماعيه. او امكانيه اين يطور كل بلد نموذجه في الاتصال وفقاً لحاجاته و تقاليده او وفقاّ لامكانيات وسائل الاعلام التي تمتلكها الحركات و الدول الاسلاميه في البلدان الاسلاميه كافه.
3- ان ما يستفاد من تجربيه الاعلام الغربي في محتواه الموجه الي لعالم الاسلامي و شعوبه و قيمه، انه لا يلجأ الي ما هو مباشر في نقد الاسلام و عاداته. او في الترويج لافكار الغرب و قيمه الا نادراً. بل يعتمد الي ما يمكن ان نسميه بسياسه التراكم و التنوع التي تؤدي من خلال تكرار المفاهيم و الصور غير المباشره في وسائل الاعلام المختلفه الي تكوين الرأي او الانطباع المشوه عن هذا العالم و عن هذا الدين و عن الشعوب التي تعتنقه. و الي تكوين صوره اخري عن عالم الغرب جذابه و براقه. دون ان يغفل التنوع الذي يتيح انتقاد هذا الجانب او ذلك من جوانب الحياه في العالم الغربي. و هو اسلوب ناجم عن خبره عميقه في سيكولوجيه التأثير الاعلامي، و عن مقدره علي الصبر و تحمل النفقات الباهظه، و عن امتلاك انواع مختلفه و متعدده من وسائل الاعلام التي تتوجه الي الانسان في مختلف اوجه نشاطه. بينما لايزال الاعلام الاسلامي، لاسباب شتي، اعلاماً مباشراً، يتوخي التأثير العاجل و لا يتحلي بالصبر الذي يثمر بعد حين.
4- لا يعني ما تقدم ان التطور الاعلامي الغربي رجس مطلق. فلولا هذه التقنيه الهائله في اختراق المساحات و الحدود لبقيت مجزره قانا في جنوب لبنان طي الكتمان. لولا القنوات الفضائيه لما امكن معرفه ما يجري في العالم و لا امكن ايصال ما نريد اليه. و مع الشبكات الحاليه للمعلومات (انترنيت) التي تفتح نوافذ المعرفه علي العالم كله، يمكن ان تحتل «رساله» الافراد و المنظمات و المؤسسات و الحكومات في البلدان الاسلاميه كافه بمحتواها المناسب، حيزاً في هذه الشبكات سواء بين هذه البلدان نفسها او الي جانب مصادر المعرفه الاخري التي يبثها الآخرون من زوايا العالم الاربع.
ان الاعلام بات علماً و فناً في عالم اليوم. يتداخل فيه التقني بالنفسي و السياسي بالثقافي. و لا ينبغي ان نهمل ذلك كله او نبرر غيابه، لان «الرساله» بمحتواها الاخلاقي لن تصل الا اذا توفر فيها ذلك الترابط.