الوقت- في خضم الحرب الشاملة التي تشنّها "إسرائيل" على قطاع غزة منذ أشهر، شهدت الساحة الداخلية تطوراً خطيراً تمثّل في استشهاد عدد من عناصر قوى الأمن خلال تصديهم لمجموعة مسلّحة حاولت استهداف الممتلكات العامة والخاصة تحت غطاء الفوضى والتمرد الداخلي، هذا الحدث، الذي لم يكن معزولاً عن السياق السياسي والأمني الأوسع، يحمل في طياته دلالات عميقة حول التحول في أدوات العدوان الإسرائيلي، وطبيعة المعركة متعددة الأبعاد التي تُخاض ضد الشعب الفلسطيني.
التحول من القصف إلى تفكيك الجبهة الداخلية
استهداف العناصر الأمنية الفلسطينية داخل غزة ليس مجرد حادث عرضي أو نتيجة صدام داخلي تقليدي، بل هو تعبير صريح عن انتقال العدو الغاشم إلى مرحلة "ضرب العمق المجتمعي"، عبر أدوات غير تقليدية تتجاوز القصف المباشر إلى محاولات هندسة التفكك من الداخل، وبينما تواصل آلة الحرب الصهيونية دكّ الأبنية وتدمير البنية التحتية، يجري على خطٍ موازٍ تسريب أدوات فوضى، تغذيها وسائل إعلام وتحريض سيبراني وتجنيد استخباراتي ممنهج.
لم يعد الاحتلال يكتفي بإضعاف الفصائل المقاومة أو تحطيم الإمكانات العسكرية، بل أصبح يستهدف المنظومة المجتمعية وعلى رأسها المؤسسة الأمنية، التي تُعد صمام الأمان للنظام المدني في القطاع، ضرب هذه المنظومة يعني فتح بوابة الفوضى الشاملة.
تفكيك الروابط الوطنية: رهان الاحتلال على كسر تماسك الداخل
التحليل الموضوعي لما جرى يشير إلى أن الاحتلال يدرك جيداً أن انتصار غزة لا يقاس فقط بالقدرات العسكرية، بل بقدرة المجتمع على الحفاظ على وحدته وتنظيمه الداخلي، ومن هنا، فإن تفتيت هذه القدرة عبر اختراقات أمنية ودفع مجموعات محلية إلى الصدام مع النظام العام، هو جزء من خطة ممنهجة تهدف إلى تقويض ثقة الناس بمؤسساتهم.
رغم محاولات الاحتلال تسويق الفوضى كتمرّد شعبي، فإن وحدة غزة الشعبية والمؤسساتية تكذّب هذا السرد المضلّل، فالمشهد على الأرض يُظهر وعياً جمعيّاً في التصدي لمحاولات التخريب الممنهج الذي يستهدف المواطن ومقدّراته، الهدف من هذه الهجمات ليس فقط زعزعة الأمن، بل خلق صورة مُشوَّهة بأن غزة فقدت السيطرة على داخلها، بما يخدم أجندة الاحتلال سياسيًا وعسكريًا، لكن التماسك المجتمعي، إلى جانب يقظة الأجهزة الأمنية، يعكس قدرة القطاع على احتواء الهجمة وتفنيد قدرات العدو أمام المجتمع الدولي.
حرب نفسية ناعمة وتوقيت مدروس
المرحلة الجديدة من هذا العدوان غير التقليدي تعتمد على أدوات ناعمة أكثر خطورة، تبدأ من وسائل التواصل وتنتهي بخلايا نائمة تستهدف مؤسسات الدولة من الداخل، التحريض السيبراني، الشائعات، والمعلومات المضللة باتت أسلحة يومية تُستخدم لإضعاف الجبهة الداخلية، وخصوصاً في ظل انشغال المقاومة بميدان المواجهة العسكرية.
سلطات الاحتلال اختارت توقيت هذه الهجمات بعناية، إذ جاءت في ظل تصاعد المجازر وتزايد معاناة الناس، ما يشير إلى نية مزدوجة، تشتيت الجهد الأمني وإرهاق المؤسسة الأمنية من الداخل، وإظهار العجز أمام المجتمع الدولي تمهيداً لفرض حلول أمنية خارجية أو حتى تدخلات سياسية.
بين نضج الوعي الشعبي وثبات المنظومة الأمنية
في ظل التحديات المتراكمة التي يواجهها قطاع غزة، لم يكن التفاعل الشعبي مع الحادث الأمني الأخير مجرّد موقف عاطفي أو رد فعل غاضب، بل عكس حالة وعي جماهيري ناضجة تجاه طبيعة المعركة التي تتجاوز الأسلحة والقنابل، إلى معركة الوعي والهوية، أدرك المواطن الفلسطيني أن ما جرى ليس حالة تمرد عفوي، بل امتداداً لحرب نفسية واستخباراتية تستهدف البنية الداخلية للمجتمع، وتسعى لضرب صموده من الداخل.
هذا الوعي الشعبي لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة تراكم سنوات من الصبر والخبرة والاحتكاك المباشر مع أساليب الاحتلال الخبيثة، فقد بات الناس يدركون أن الفوضى المقنّعة بثوب الغضب الشعبي لا تخدم إلا مشاريع العدو، وأن الحفاظ على الجبهة الداخلية المتماسكة هو أحد أشكال المقاومة التي لا تقل أهمية عن القتال في الميدان.
وفي المقابل، أظهرت المؤسسة الأمنية في غزة أداءً مسؤولًا يعبّر عن نضج في إدارة الأزمات، ووعي سياسي بالخط الفاصل بين حفظ الأمن والانجرار إلى ردود فعل متشنجة قد تزيد المشهد تعقيداً، لقد تعاملت هذه المؤسسة مع الحدث بحكمة وانضباط قانوني، مؤكدة أنها ليست طرفاً في صراع داخلي، بل حامية للنسيج الاجتماعي والوطني، إن هذا التماسك بين وعي الشارع وانضباط السلطة يُعد أحد أبرز نقاط القوة في وجه مخطط العدو، الذي يراهن على انهيار العلاقة بين الشعب ومؤسساته.
في النهاية، الأمن صمود لا يقل عن المقاومة المسلحة، وما حدث في غزة ليس حادثاً عرضياً، بل حلقة جديدة من حلقات الحرب المركبة التي تستهدف الوجود الفلسطيني من أساسه، إنها معركة تدور على الأرض وفي العقول، بالرصاص وبالشائعات، بالجوع وبالتحريض.
الأمن في غزة ليس ملفاً تقنياً أو مسؤولية حكومية عابرة، بل هو جبهة نضال متقدمة يدفع رجالها دماءهم لحماية ظهر المقاومة وكرامة المجتمع، من يستهدفهم، يستهدف جوهر المشروع الوطني الفلسطيني.
وفي مواجهة هذا المخطط، تبقى وحدة الصف، وحكمة الإدارة، ووعي الناس، هي الركائز الثلاث التي يمكن أن تُفشل المشروع الصهيوني الجديد، تماماً كما فشلت آلة الحرب في كسر إرادة غزة على مدى سنوات الحصار والعدوان.