الوقت - منذ عقود، يسعى الكيان الصهيوني إلى تعزيز نفوذه في جنوب سوريا عبر سياسات التوغل العسكري والاحتلال غير المباشر، وقد كشفت تقارير إعلامية إسرائيلية عن تقسيم الجيش الإسرائيلي للجنوب السوري إلى ثلاث مناطق رئيسية، بهدف فرض واقع أمني وسياسي جديد يُعزز السيطرة الإسرائيلية ويمنع استعادة الدولة السورية لسيادتها الكاملة على أراضيها، هذه التحركات تأتي في سياق أوسع من محاولات تل أبيب لفرض نفوذها الإقليمي، وسط تغيرات سياسية داخل سوريا وتحولات استراتيجية على مستوى المنطقة.
وحسب القناة 12 الإسرائيلية، تمتلك "إسرائيل" قدرة على المراقبة والتحكم الناري داخل الأراضي السورية، بما يشمل العاصمة دمشق، وتشير التقارير إلى أن نحو 40 ألف مدني سوري يعيشون في مناطق تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، وسط تحذيرات من انتشار خلايا أمنية تابعة للكيان داخل هذه المناطق، هذه السيطرة لا تقتصر فقط على الجانب العسكري، بل تتجسد أيضًا في البعد الأمني من خلال عمليات المراقبة والتجسس، ما يعكس نوايا تل أبيب في توسيع نفوذها وتعميق تدخلها في الشؤون السورية.
تقسيم الجنوب السوري: استراتيجية احتلال جديدة
وكشف الخبير في الشأن الإسرائيلي مهند مصطفى أن تقسيم الجنوب السوري إلى ثلاث مناطق أمنية رئيسية يعد بمثابة إعلان احتلال رسمي، ويرى مصطفى أن الهدف الرئيسي من هذا المخطط هو خلق معضلة سياسية أمام النظام السوري الجديد، ومنعه من بسط سيادته الكاملة على الأراضي السورية.
كما أوضح أن "إسرائيل" استفادت من دروس حرب الـ 7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث أصبح لديها قناعة بضرورة تعزيز سيطرتها الأمنية والعسكرية على المناطق الحدودية لضمان استمرارية نفوذها، ومن هنا، جاء القرار بترسيخ وجودها في جنوب سوريا عبر السيطرة على عمق يصل إلى 65 كيلومترًا، ما يضع قواتها على مقربة من العاصمة دمشق.
إلغاء اتفاقية فض الاشتباك واحتلال المنطقة العازلة
بدأ الاحتلال الإسرائيلي الفعلي للجنوب السوري بإلغاء اتفاقية فض الاشتباك الموقعة عام 1974، والتي كانت تنظم الوضع الأمني بين سوريا و"إسرائيل"، تبع ذلك سيطرة الاحتلال على المنطقة العازلة والدخول إلى القرى المحيطة بها، ما عزز نفوذه العسكري في الجنوب السوري، وخاصة في المناطق الممتدة من جبل الشيخ والقنيطرة وصولًا إلى السويداء.
استغلال الأقليات والتلاعب بالورقة الدرزية
تحاول "إسرائيل" التغلغل داخل المجتمع السوري عبر استغلال الأقليات، وخاصة الدروز، في محاولة لضمان موطئ قدم استراتيجي في الجنوب، ووفقًا لصحيفة "هآرتس"، قررت الحكومة الإسرائيلية تشكيل هيئة مشتركة مع منسق أعمال الحكومة بالضفة الغربية للتواصل مع الدروز في جنوب سوريا، كما تم الإعلان عن بدء ترميم البنية التحتية في المدن الدرزية القريبة من الحدود، في خطوة تهدف إلى كسب ولاء هذه الطائفة، واستمالتها لتحقيق المصالح الإسرائيلية.
لكن هذه التحركات جاءت بعد اتفاق أبرمته الحكومة السورية الجديدة مع حركة "رجال الكرامة" في السويداء، وهو ما مثل ضربة قاصمة لمخططات "إسرائيل"، فالاتفاق عزز من ارتباط المدينة بالدولة السورية، وأحبط محاولات تل أبيب لخلق نفوذ لها داخل السويداء.
التصعيد العسكري والتوسع في المنطقة العازلة
في محاولة لتعزيز احتلالها الفعلي، كثّف جيش الاحتلال الإسرائيلي من غاراته الجوية على المواقع العسكرية السورية، كما أنشأ سبعة مواقع عسكرية إضافية داخل المنطقة العازلة، هذه الخطوات تهدف إلى منع تموضع الجيش السوري في المنطقة، وتوفير غطاء للوجود العسكري الإسرائيلي.
ووفقًا لمصادر إسرائيلية، قام رئيس هيئة الأركان العامة الإسرائيلي، إيال زامير، بجولة في المنطقة العازلة على خط وقف إطلاق النار بالجولان المحتل، برفقة قائد المنطقة الشمالية أوري جوردين، ومسؤولين عسكريين آخرين، هذه الزيارة تعكس حجم المخاوف الإسرائيلية من التحولات الجارية في سوريا، وخاصة بعد الاتفاق بين الرئاسة السورية وقيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وكذلك مع وجهاء محافظة السويداء، حيث أسهمت هذه التطورات في تعزيز وحدة الأراضي السورية وإحباط محاولات التقسيم.
نتنياهو ومخططات الهيمنة على الجنوب السوري
يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى تكريس واقع احتلالي جديد في جنوب سوريا، مستخدمًا ذرائع مثل "توفير الحماية للأقليات"، بينما الهدف الحقيقي هو فرض سيطرة إسرائيلية طويلة الأمد على المنطقة، التحليلات الإسرائيلية نفسها أكدت أن هذه السياسات لن تحقق الأمن لـ"إسرائيل"، بل ستؤدي إلى تورطها في الصراعات الداخلية السورية، ما قد ينعكس سلبًا على أمنها القومي.
القلق الإسرائيلي من الاتفاقات السورية الداخلية
أثارت التطورات السياسية الأخيرة داخل سوريا قلقًا كبيرًا في "إسرائيل"، حيث اعتبرت الصحف العبرية أن الاتفاقات التي أبرمها النظام السوري الجديد مع "قسد" ووجهاء السويداء تشكل "إنجازًا استراتيجيًا" للدولة السورية، هذه الاتفاقات تعزز وحدة الأراضي السورية وتضعف المخططات الإسرائيلية القائمة على تفكيك البلاد عبر استغلال الانقسامات الداخلية.
وفي هذا السياق، حذر الباحث الإسرائيلي إيال زيسر من أن التدخل الإسرائيلي في سوريا هو "مغامرة حمقاء" لا تمتلك أي منطق سياسي أو عسكري، مؤكدًا أن "إسرائيل" بدلاً من التركيز على قضاياها الأمنية الأساسية مثل مواجهة حماس وحزب الله، أصبحت تتورط في النزاعات السورية الداخلية بلا جدوى.
دروس من التجربة اللبنانية: هل يعيد التاريخ نفسه؟
يشير الباحث نير أرييلي إلى أن "إسرائيل" لم تتعلم من تجربتها في جنوب لبنان، حيث لم يمنع الاحتلال الإسرائيلي هناك إطلاق الصواريخ على المستوطنات الشمالية، بل زاد من حالة العداء وأدى إلى تصاعد المقاومة ضد الاحتلال، ويرى أرييلي أن الاحتلال الإسرائيلي في جنوب سوريا سيتسبب في نتائج مماثلة، وسيؤدي إلى تعزيز القوى التي تسعى إلى محاربة الوجود الإسرائيلي في المنطقة.
ما يجري في جنوب سوريا اليوم هو إعادة إنتاج لأساليب الاحتلال الإسرائيلي، ولكن بأساليب جديدة تستند إلى تفتيت النسيج الاجتماعي، واستغلال الأقليات، وفرض مناطق نفوذ أمنية، ومع ذلك، فإن التحولات السياسية داخل سوريا، والتقارب بين مكونات المجتمع السوري، قد تمثل العقبة الأبرز أمام هذه المخططات.
الكيان الصهيوني قد يحاول خلق واقع جديد في الجنوب السوري، لكنه يواجه معضلة استراتيجية حقيقية: فكلما زاد توغله في الشأن السوري، زادت احتمالات المواجهة مع نظام بدأ يستعيد زمام الأمور، ويحظى بدعم إقليمي ودولي متزايد، وفي نهاية المطاف، قد يجد الاحتلال الإسرائيلي نفسه غارقًا في مستنقع جديد، تمامًا كما حدث في جنوب لبنان قبل انسحابه عام 2000.