الوقت - في مشهدٍ يعكس تخبط القيادة الصهيونية، أقدم بنيامين نتنياهو، بعد مرور خمسة وعشرين يوماً على عملية "الوعد الصادق 2" في الأراضي المحتلة، على مغامرةٍ غير محسوبة العواقب فجر السبت، حيث أصدر توجيهاته باستهداف منشآت عسكرية داخل الأراضي الإيرانية.
وحسب التصريحات الرسمية الإيرانية، فإن هذا العدوان الذي استمر ثلاث ساعات - والذي زعم الكيان الصهيوني تنفيذه بأسراب من المقاتلات - باء بالفشل الذريع، إذ اقتصرت تداعياته على إلحاق أضرار محدودة بمنظومات الرادار والمنشآت في عدد محدود من القواعد العسكرية، وذلك بفضل كفاءة منظومات الدفاع الجوي الإيرانية المتطورة.
في المقابل، تُصر الأوساط الصهيونية على رواية مغايرة للواقع، حيث نقلت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" عن مصادر استخباراتية مزاعم مفادها: "تمكنا من تحييد منظومات الدفاع الجوي الإيرانية بصورة شاملة، ما يُرسل رسالةً واضحةً تؤكد امتلاك "إسرائيل" لحرية الحركة في المجال الجوي الإيراني. وسيمنح الرد الإيراني المتوقع، تل أبيب المشروعية لتوسيع نطاق أهدافها داخل الأراضي الإيرانية".
وفي ظل التناقض الصارخ بين الرواية الصهيونية التي تروّجها وسائل الإعلام العبرية والمسؤولون الصهاينة من جانب، والتقارير الرسمية الإيرانية من جانب آخر، يبرز السؤال المحوري: هل نجحت حكومة نتنياهو في تحقيق أهدافها المرجوة من هذا الهجوم؟
في قراءةٍ تحليلية للمشهد الاستراتيجي الراهن، وفي ظل سلسلة الإخفاقات العسكرية المتتالية التي تكبّدها الكيان الصهيوني على مدار العام المنصرم في ساحتي المواجهة في غزة ولبنان، سعى المحتل جاهداً لتسويق عدوانه على الجمهورية الإسلامية الإيرانية كإنجازٍ عسكري واستراتيجي، بهدف استثماره كورقة ضغط في أي مفاوضات مستقبلية محتملة.
بيد أن الوقائع الميدانية تكشف بجلاء عن حالة العجز المتفاقم التي يعاني منها جيش الاحتلال في مواجهة المقاومة اللبنانية المتمثلة في حزب الله، حيث أثبتت استراتيجية تصفية القيادات فشلها الذريع في النيل من عزيمة هذه المقاومة الباسلة، وقدراتها العسكرية المتنامية، ومع استطالة أمد المواجهات، تشهد الأراضي المحتلة تصاعداً مطرداً في حالة انعدام الأمن والاستقرار.
في سياقٍ متصل، بنى نتنياهو استراتيجيته على افتراضٍ خاطئ مفاده بأن العدوان على إيران سيدفعها إلى التراجع عن مواقفها المبدئية، وسيضطرها إلى ممارسة الضغط على حزب الله للقبول بوقف إطلاق النار مع الكيان المحتل، ما يمهّد الطريق لعودة المستوطنين المهجّرين إلى مستوطناتهم. غير أن الحسابات الصهيونية جانبها الصواب تماماً، إذ أدى العدوان إلى نتائج عكسية تماماً، حيث عزّز من تصميم طهران على توجيه رد استراتيجي أشدّ وطأةً وأعظم أثراً في المستقبل المنظور.
وعوضاً عن تحقيق الأمن المزعوم للكيان المحتل، بات المستوطنون الصهاينة يعيشون في ظل هاجسٍ وجودي، متمثّل في التهديد المستمر للصواريخ الإيرانية المتطورة التي باتت تنغص عليهم حياتهم اليومية وتقضّ مضاجعهم.
انكشاف الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني
لقد انكشف القناع عن الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني، بصورة جلية لا تقبل الشك، فقادة تل أبيب، الذين اقتصرت مواجهاتهم حتى الآن على فصائل المقاومة المحدودة، وكانوا يحققون بعض الانتصارات الهزيلة بفضل ترسانتهم العسكرية المتطورة وتقنياتهم الحديثة، قد أسكرتهم نشوة هذه الإنجازات الضئيلة، فظنوا واهمين أنهم قادرون على تحقيق نصر مماثل في مواجهة إيران. بيد أن طبيعة هجومهم على الجمهورية الإسلامية، رغم الضجيج الإعلامي الهائل الذي رافقه، قد كشفت بوضوح تام عن حقيقة قدرات "إسرائيل" المحدودة.
لقد برهن هذا الهجوم بما لا يدع مجالاً للشك، أن الكيان الصهيوني يفتقر إلى المقومات اللازمة لمجابهة قوة إقليمية عظمى كإيران. فقد استنفدت حكومة نتنياهو كل ما في جعبتها من إمكانيات وقدرات، دون أن تحقق أي مكسب استراتيجي يُذكر.
كان نتنياهو يداعب أحلامه بشن هجوم كاسح على المنشآت النووية والنفطية الإيرانية، وبعد الهجوم على مقر إقامته، راودته أوهام استهداف مقرات كبار المسؤولين الإيرانيين كأحد الخيارات المحتملة، إلا أنه في نهاية المطاف، وفي محاولة يائسة للحفاظ على ما تبقى من ماء وجه "إسرائيل"، اقتصرت عملياته على ضربات محدودة وهزيلة لبعض المراكز العسكرية الثانوية.
في هذا الهجوم الصهيوني المحدود، كان ظل الضربات الموجعة لعملية "الوعد الصادق 2" حاضراً بقوة وجلاء، هذه العملية الإيرانية النوعية، قد غيّرت بشكل جذري موازين الردع لمصلحة محور المقاومة، فقد أطلق المسؤولون في طهران تحذيرات صارمة، مفادها بأن أي مغامرة إسرائيلية حمقاء ستُقابل بهجوم ساحق على الأراضي المحتلة، مؤكدين بحزم على حقهم المشروع والراسخ في الرد الحاسم على هذه الجريمة النكراء.
ويرى الخبراء الاستراتيجيون أن توجيه الضربة القاضية للكيان الصهيوني من خلال عملية "الوعد الصادق 3" المرتقبة، سيجبر حكومة نتنياهو المتهالكة على الرضوخ والعودة صاغرةً إلى طاولة المفاوضات مع قوى المقاومة، ممثلةً في حزب الله وحركة حماس.
من جانبٍ آخر، حاول نتنياهو في مسعى بائس أن يستغل عدوانه على إيران، كوسيلة لرأب الصدع في النسيج الاجتماعي المتهالك للكيان الصهيوني. بيد أن هذه المناورة السياسية الرعناء قد ارتدّت عليه بنتائج كارثية، حيث اتحدت أصوات المعارضين والمنتقدين، بل حتى المؤيدين له، في وصف هذه الخطوة المتهورة بأنها وصمة عار تاريخية، ونكسة مذلة للكيان.
وقد تحولت المنصات الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي الصهيونية، إلى ساحة عاصفة من النقد اللاذع والسخرية المريرة، ما يعكس حجم الإحباط والخيبة التي مُني بها المجتمع الإسرائيلي.
تجلي الوحدة الوطنية الإيرانية في أبهى صورها
لقد غرق نتنياهو في بحر من الأوهام، معتقداً أن عدوانه الغاشم على إيران سيؤجج نار الفتنة، ويعمّق الهوة بين الشعب الإيراني ونظام الجمهورية الإسلامية.
ففي غمرة غروره الأعمى، تصوّر أنه سيتمكن من استغلال حالة عدم الاستقرار المزعومة لمصلحة مخططاته الخبيثة. غير أن الواقع جاء صادماً لتوقعاته وآماله الواهية، إذ أظهرت الاستجابة الشعبية الإيرانية للهجمات الصهيونية المحدودة، صورةً مغايرةً تماماً لما كان يتمناه.
فقد أدى هذا العمل العدواني السافر إلى تأجيج مشاعر الوطنية، وتعزيز اللحمة المجتمعية في إيران بشكل غير مسبوق، وفي مشهد ملحمي يجسّد عظمة الشعب الإيراني وأصالته، برهن حتى أشدّ منتقدي النظام على أنهم يقفون كالبنيان المرصوص، بقلب واحد ونبض واحد، في وجه أي تهديد يستهدف سيادة بلادهم ووحدة أراضيها، لقد أكدوا، بما لا يدع مجالاً للشك، رفضهم القاطع لأي محاولات أجنبية للتدخل في شؤونهم الداخلية، أو فرض إملاءات خارجية على قراراتهم الوطنية السيادية.
لقد تجلّت سكينة الشعب الإيراني في الطرقات وعدم اكتراثهم بغارات الكيان الصهيوني، مُجسِّدةً إخفاق نتنياهو الذريع وارتداد مساعيه خائبةً، ففي حين يهرول المستوطنون إلى الملاجئ عند دوي صفارات الإنذار، اعتلى الإيرانيون شُرُفات منازلهم بكل ثقة، يوثّقون بعدسات كاميراتهم مشهد القوة الدفاعية الجوية لوطنهم، في لوحة حية من الفخر والاعتزاز.
وعلاوةً على ذلك، فإن نتنياهو، الذي نجح في بداية عدوانه على غزة في استمالة شريحة من المجتمع الدولي لتأييد همجيته، يجد نفسه اليوم في عزلة متصاعدة، منبوذاً حتى من أقرب حلفائه، وذلك نتيجةً لتصعيده الإجرامي في غزة ولبنان، وقد جاءت المواقف الحازمة للدول الإسلامية والعربية، مقرونةً بموقف سويسرا المُندِّد بالاعتداء على السيادة الإيرانية، لتُسدل الستار على آخر أوراق نتنياهو، مؤكدةً خسارته الفادحة في مواجهة صمود طهران وعزيمتها.