الوقت- بقفزات متتالية خلال الأيام الأخيرة الماضية، بدأ الدولار في السوق الموازية بمصر الصعود، ليصل الدولار إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، ترافق مع سحب مستثمرين خليجيين استثمارات كبيرة من السوق المصرية، بعد أن تسببت أسوأ أزمة سعر صرف تشهدها القاهرة في اهتزاز الوضع الاقتصادي، وهو ما يوحي بأن مصر لم تعد وجهة مفضلة للمستثمرين، حيث أكد رئيس لجنة الخطة والموازنة في مجلس النواب المصري، أن 22 مليار دولار خرجت من مصر بسبب الأزمة الاقتصادية، حيث لا تجد الشركات دعمًا في مصر يعوضها عن الفارق الكبير في سعر العملة، ما يجعل الوضع الحالي يمثل عامل طرد للمستثمرين والعلامات التجارية من البلاد، ويرى محللون أن انخفاض سعر الجنيه المصري عاملُ جذب للاستثمار الأجنبي، لكن يمكن الجزم بهذا في الأوضاع الطبيعية التي تشير إلى انخفاض سعر الجنيه ووجود قيمة واحدة له وتعامل أوحد في المصارف.
وتُعاني مصر من أزمة عملة منذ حرب روسيا وأوكرانيا؛ نتيجة تدفق ما يزيد على 20 مليار دولار إلى الخارج، في وقت ينكشف فيه اقتصادها بنحو 56 في المئة على مخاطر العملة نتيجة فاتورة الاستيراد المرتفعة، حسب تقديرات وثيقة بحثية صادرة عن مركز دعم واتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، وذلك فضلا عن جدول سداد الديون الخارجية المرتفعة.
خروج علامات تجارية من السوق المصري
تسود حالة قلق بين عشاق التسوق والمولعين بالعلامات التجارية العالمية بسبب قرب توديع بعض متاجر التجزئة العالمية المفضلة لديهم؛ حيث قررت مجموعة الشايع الكويتية العملاقة لتجارة التجزئة، والتي تعد أحد أكبر مشغلي بعض العلامات التجارية للبيع بالتجزئة في المنطقة، تقليص عملياتها في مصر على خلفية ضغوط العملة الأجنبية والظروف الاقتصادية الصعبة.
وستخرج بعض العلامات التجارية التابعة للمجموعة من القاهرة تدريجيّا، على أن تغلق أبوابها بالكامل في النهاية، بينما ستقلص عمليات متاجر أخرى، وتأتي سلسلة متاجر دبنهامز البريطانية كأول من يغادر مصر، كما ستغلق جميع الفروع التابعة لها، بالإضافة إلى الموقع الإلكتروني الخاص بها، بحلول نهاية فبراير القادم، وقالت الشركة في رسالة إلى العاملين في المتاجر المزمع إغلاقها إنها قررت تقليص عملياتها في مصر نتيجة الوضع الاقتصادي على مدى الأعوام الثلاثة الأخيرة، والصعوبات التي تواجه أعمالها التجارية، بما في ذلك انخفاض العملة وضغوط سعر الصرف والتضخم المرتفع.
كما ستُغلق أبواب متاجر ذا بودي شوب، ومذر كير وبنكبري، فيما ستظل العلامات التجارية الأخرى، مثل إتش آند إم وفيكتوريا سيكريت وأميركان إيجل وباث آند بادي، موجودة في السوق على نطاق أضيق، وسيصل عدد المتاجر المغلقة إلى نحو 60 متجرًا تابعا للمجموعة في مختلف أنحاء مصر، إلى جانب تسريح 375 موظفًا، وبعد تلك القرارات سيكون لدى المجموعة نحو 100 متجر نشط في مصر، 80 في المئة منها ستكون فروعا لمقهى ستاربكس.
وسبقت مجموعة الشايع في الانسحاب من مصر مجموعةُ تبريد الإماراتية التي كشفت في 12 يناير الجاري عن إنهاء التعاقد مع مشروع المدينة الطبية الجديدة في البلاد كابيتال ميد، بسبب أزمة الدولار المحتدمة، وقالت تبريد إنه جرى إنهاء التعاقد بالاتفاق بين الطرفين، لأن نفقاتها الرأسمالية كانت بالدولار، لكن الإيرادات المستقبلية بالعملة المحلية، وأصبح المشروع غير مستدام من الناحية المالية قبل انطلاق الأعمال.
أثر الوضع الأمني في المنطقة على الاقتصاد المصري
يشير مستثمرون إلى أن استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة دون سقف زمني لانتهاء الحرب، مع مشاركة الولايات المتحدة ودول غربية كبيرة في دعم موقف الاحتلال، ساهم في ضبابية المشهد الجيوسياسي، بما يدفع الشركات إلى تحجيم أعمالها انتظارا لما ستسفر عنه حالة الحرب، في الأشهر المقبلة.
فيما يؤكد مستثمرون أن حالة الحرب أقل خطرا من عدم وجود شفافية لدى الحكومة في حسم قضيتها من تعويم الجنيه، الذي أصبحت له عدة أسعار بالأسواق، لا تمكن الراغبين في شراء الشركات المطروحة للبيع من إتمام الصفقات المقررة منذ ديسمبر الماضي، أو توقع العوائد من الإنتاج، لإنقاذ أصولهم من الـتآكل ولمعرفة كيفية تعويض ارتفاع التكاليف الناجمة عن ضعف العملة ونقص الإمدادات من الأسواق الدولية والمحلية، ومن ناحية أخرى، تسببت الاضطرابات التي يشهدها البحر الأحمر بشكل مباشر وواسع على حركة السفن في قناة السويس، التي تراجعت إيراداتها، وذلك أحد المصادر الرئيسية للدولة المصرية للعملة الصعبة التي تتفاقم أزمتها ما بين وقت وآخر
قرارات حكومية فاقمت من الأزمة
إن خروج مجموعات كبيرة من الشركات ورجال الأعمال للبحث عن فرص استثمارية بديلة في الدول العربية وأفريقيا وغيرها، ناتج من قدرة هذه الدول على جذب ثقة المستثمرين، وانعكاس لأجواء طاردة للاستثمار، في ظل تحميل رجل الأعمال والمواطن ثمن عدم قدرة الحكومة على إدارة الأزمة الاقتصادية التي تظهر بشدة، مع عدم توافر الدولار، ومواجهة الطرفين لسعره المتقلب بالأسواق. حيث إن تسعير العملة تقرره قوة السماسرة والشائعات التي تطلقها الحكومة، فنراه يصعد بين عشية وضحاها، بينما مجتمع الأعمال يبحث عن الاستقرار في سعر الصرف والأجواء الحاكمة للسوق، والمعلومات التي يستطيع أن يبنى عليها قراره، في ظل جو من عدم الشفافية، والتقلب في القرارات.
وحسب خبراء اقتصاديين مصريين يعود تراجع ثقة المستثمرين إلى غياب معرفة مجتمع الأعمال والمستهلكين، لحقيقة ما يدور في أروقة الدولة عن الوضع الاقتصادي بشموله، من معلومات وأرقام على الرغم من تعدد المؤتمرات واللقاءات للتحاور حول الأزمة الاقتصادية، لم توجد مجموعة عمل استطاعت دراسة مشكلة ووضعت الحلول لمواجهتها أو أسفرت عن نتائج عملية على أرض الواقع، إن هوة عدم الثقة تزداد اتساعا، مع عدم قدرة الحكومة على إيقاف نزيف الاقتصاد، وإصرارها على علاج الأعراض دون أن تواجه المرض، حيث تسعى الحكومة وراء بيع أصول عامة لتوفير الدولار، في ظل عدم كفاية قيمة هذه المشروعات لتوفير الدولار، لتغير الأجواء بالأسواق الدولية لدواعي الحرب والضغوط الاقتصادية، بما يجعل تلك الحلول غير منطقية، وعديمة الجدوى لحسم أزمة مستعصية.
هل ينقذ البريكس الاقتصاد المصري من الغرق
في الوقت الذي تبحث فيه مصر عن مخرج لأزمة شح الدولار الأمريكي التي أضرت بالاقتصاد، جاء الكشف عن انضمام القاهرة إلى مجموعة دول "بريكس" ليبعث الآمال حول أحد الأدوات التي قد تعالج الأزمة، و يقدر المسؤولون السياسيون والاقتصاديون في مصر أن الانضمام إلى "بريكس" سيعود بمنافع كبيرة على الاقتصاد المصري، وسط رغبة أعضاء التحالف في التخلص من هيمنة الدولار بمعاملاتهم، وتأسيس نظام اقتصادي عالمي جديد متعدد الأقطاب، وتعول مصر على كونها سوقاً كبيرة تضم نحو 104 ملايين نسمة، ما يضمن مستويات طلب مرتفعة على السلع وتنشيط حركة الصادرات من وإلى دول المجموعة، ومن ناحية أخرى قد أصبح تكتل البريكس اليوم أحد أهم التكتلات الاقتصادية في العالم؛ نظرًا للثقل الاقتصادي لدوله في ظل ما يتمتع به من إمكانات بشرية وصناعية وزراعية، بما يجعل قراراته محط اهتمام وتأثير عالميين.
فيما يتميز الهيكل السلعي لصادرات دول البريكس بالتنوع؛ وذلك نتيجة تنوع هيكلها الإنتاجي بما يمنح تلك الدول فرصًا كبرى للتجارة البينية وتكامل سلاسل التوريد والإنتاج بينها، فعلى سبيل المثال: تمتلك روسيا قوة إنتاجية هائلة من النفط والغاز الطبيعي والحبوب، وهي الثانية عالميًّا في تصدير الوقود، وكذلك الأولى عالميًّا في تصدير الأسمدة، والثالثة في تصدير النيكل ومصنوعاته، هذا بخلاف تميزها في عدد من الصناعات الثقيلة، فيما تتميز الصين بتنوع هيكلها الإنتاجي الصناعي غير النفطي وتتصدر العالم في تصدير العديد من المنتجات الصناعية الثقيلة والخفيفة، بينما تتميز جنوب إفريقيا بصناعة واستخراج المعادن والأحجار الكريمة ولا سيما اللؤلؤ؛ فضلا عن تميز البرازيل بمنتجاتها الزراعية كاللحوم والسكر والبن والشاي والحبوب، بينما كانت الملابس والمنسوجات الصادرات الأبرز لدى الهند التي تمتلك صناعة برمجيات متطورة.
ويأتي انضمام مصر للبريكس الذي يعد أكبر تكتل اقتصادي والذي يضم اقتصاديات كبرى مثل روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا والسعودية والإمارات خطوة إيجابية للاقتصاد المصري، لأن من شأنه أن يساهم في زيادة حجم التجارة البينية بين مصر ودول التكتل.
فى ظل اتجاه البريكس نحو دعم العملات المحلية للدول الأعضاء، كمحاولة مبدئية لإنشاء وحدة حساب أو عملة موحدة خاصة بدول التكتل، فقد تستفيد مصر من دخولها البريكس عن طريق دعم الجنيه المصرى في العلاقات التجارية، حيث يمكن لانضمام مصر إلى "بريكس" أن يسهم في زيادة التبادل التجاري مع مصر، وخصوصاً مع إمكانية استخدام مصر لمبادلة العملة، ما يسهل التجارة والتبادل بالعملات المحلية، الأمر الذي من شأنه أن يخفف من زيادة الطلب على الدولار، وبالتالي لا نلجأ إلى مزيد من خفض قيمة الجنيه أو زيادة سعر الدولار للاستيراد ما يساهم في فتح فرص للتصدير مع دول المجموعة والتشجيع على زيادة حجم الصادرات وتقليل عجز الميزان التجاري.
و على النقيض مما يحصل اليوم من خروج المستثمرين من مصر فإن الانضمام لمجموعة البريكس يمكن له جذب عدد كبير من المشروعات المستقبلية، وخاصة مشروعات الرقمنة والتنمية الزراعية والاستثمارات البيئية الخضراء والبنية التحتية، كذلك مشروعات الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، ويسمح الوجود الرسمى فى البريكس فى دفع مزيد من الاستثمارات فى تلك المجالات التنموية المهمة، هذا فضلا عن تبادل الخبرات والكفاءات بشكل مباشر من الدول الأعضاء فى الجماعة وخاصة تلك الخبرات المتعلقة بالصناعة والتكنولوجيا.