الوقت- مؤخرا، أعلنت كلودين غاي، رئيسة جامعة هارفارد الأمريكية، عن قرارها بالتنحي من منصبها، وذلك إثر تعرضها لضغوط وانتقادات بسبب مشاركتها في المظاهرات المناهضة لـ "إسرائيل" داخل الحرم الجامعي، في إطار ما يُعتبر جزءًا من "حرية التعبير"، وأوضحت غاي في بيان صحفي أصدرته قبل يومين، أن قرارها بالاستقالة جاء بهدف تجنب إثارة الجدل حول شخصها الشخصي، وتفادي تسبب ذلك في إلحاق أي ضرر بسمعة الجامعة، وأكدت أن هذا الخطوة تهدف إلى تمكين الجامعة من تحقيق أهدافها بعيدًا عن التوترات والجدل الأخير الذي شهده الحرم الجامعي، في وقت تتصاعد فيه التظاهرات في الولايات المتحدة والشارع الغربي ضد الإجرام الإسرائيلي بحق الأبرياء في فلسطين ودعم حكوماته للإرهاب العلني والإبادة الجماعية.
قرار خطير للغاية
في قرار خطير يهدد كل الشعارات الأمريكية، وعلى الرغم من أنها تحدثت وبكل وضوح أشارت غاي إلى أن "من الواضح أنه في مصلحة جامعة هارفارد أن أستقيل، بهدف تمكين الجامعة من تجاوز هذه المرحلة الصعبة للغاية، من خلال التركيز الشامل على تعزيز المؤسسة بدلاً من التركيز على شخص الرئيس"، وأكدت رئيسة الجامعة على عدم وجود مكان لجرائم الكراهية داخل الحرم الجامعي، مؤكدة على التزام الجامعة بضمان بيئة آمنة ومحايدة لجميع أفراد المجتمع الجامعي، إلا أن الكيان ومن يدعمه من العصابات الصهيونية "اللوبي" لم يعجبهم ذلك، والدليل أن وسائل الإعلام الأمريكية قد أوردت تقارير حول تلقي كلودين غاي لردود فعل قوية، وخاصةً من قبل الجماعات المؤيدة ل"إسرائيل"، نتيجة لمواقفها المعلنة بشأن المظاهرات المرتبطة بـ "حرية التعبير" داخل الحرم الجامعي.
وقد تزايدت الضغوط على كلودين غاي بشكل كبير بعد استجوابها خلال جلسة مع أعضاء في الكونغرس في الخامس من ديسمبر/كانون الأول الماضي، وتمحورت الأسئلة التي واجهتها حول موقفها من المظاهرات داخل الحرم الجامعي ومدى تأثيرها على حرية التعبير، وكانت وسائل الإعلام الأمريكية قد ناقشت، خلال الأسبوع الماضي، ادعاءات حول اتهامها بـ "سرقة بعض أعمالها الأكاديمية في الماضي"، كما أن لجنة التعليم والقوى العاملة بالكونغرس قد استدعت كلاً من كلودين غاي ورئيسة جامعة بنسلفانيا، إليزابيث ماغيل، ورئيسة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا "إم آي تي" (MIT)، سالي كورنبلوث، للمشاركة في جلسة تناقش "محاسبة رؤساء الجامعات ومكافحة معاداة السامية" في الخامس من ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وتعرضت كلودين غاي، إليزابيث ماغيل، وسالي كورنبلوث لضغوط وانتقادات حادة بسبب رفضهن قبول فكرة تقديم استقالتهن، وذلك بسبب رفضهن اعتبار الاحتجاجات ضد "إسرائيل" معادية للسامية، وقد قام أكثر من 500 عضو في هيئة التدريس في جامعة هارفارد بتوقيع عريضة تعبيرًا عن دعمهم لرئيسة الجامعة، في خطوة تعكس التوجهات المتباينة داخل الجامعة بشأن هذه القضية المثيرة للجدل، ولم تكن مهمة صعبة على الحركة الصهيونية العالمية تشويه الحقائق وتحريف الأحداث المتعلقة بقضية فلسطين، وذلك لعدة أسباب، من بينها امتلاكها للوبي الصهيوني القوي الذي يمتلك القدرة على التأثير في صنع القرار.
كذبة معاداة السامية
رغم سيطرتها على وسائل الإعلام الغربية، لم تستطع عصابات اللوبي الصهيوني في الحرب على غزة توجيه الرأي العام كما تريد، وهذا ما جعلهم يستخدمون الطرق الاستبدادية التقليدية في اسكات من يخالفهم، وقد تعودنا على مزاعمهم التاريخية الكاذبة، ومن بين الأكاذيب الكبيرة التي استفادت منها الحركة الصهيونية العالمية بعد إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، هو إعادة استخدام تهمة "معاداة السامية" وتحديد العرق السامي بالنسبة لأتباع الديانة اليهودية، السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هو مفهوم "السامية" وما هو العرق السامي؟.
وتم استخدام مصطلح "معاداة السامية" للمرة الأولى في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، خلال فترة الاضطهاد الأوروبي لليهود، ويعود أصل مصطلح "السامية" إلى "سام، ابن نوح عليه السلام"، وتنقسم المجموعات السامية إلى فئتين، حيث تشمل الفئة الأولى الآشوريين والفينيقيين والعبريين، أما الفئة الثانية، فتضم العرب والذين يُعتبرون الأكثر عدداً في العرق السامي، وهنا يطرح السؤال الذي يبدو متناقضًا: كيف يمكن لشخص عاقل أن يلصق صفة جنس عرقي بأتباع دين معين؟ يظهر هذا التساؤل كمحاولة للتنبيه إلى التباس تاريخي يتعلق بمصطلح "معاداة السامية" وضرورة التفريق بين الدين والعرق، حيث يتم تحميل اليهود في بعض الأحيان المسؤولية عن مفهوم "السامية" بشكل غير دقيق.
وإذا قمنا بالتفكير في تاريخ اليهود، نجد أن هناك نسبة كبيرة من اليهود الذين يُعرفون بـ "الخَزَر"، والذين يعود أصلهم إلى الشعوب الوثنية التي استقرت في أوروبا الشرقية ومن ثم اعتنقت اليهودية وعاشوا ضمن الإمبراطورية الروسية، وبالإضافة إلى ذلك، يوجد يهود أفارقة ويهود قادمون من الجزيرة العربية، وفي هذا السياق، يثار التساؤل كيف يمكن تجميع كل هؤلاء في مجموعة عرقية واحدة؟ ويتساءل الشخص عن كيفية تمثيل هذا التنوع الجيني والثقافي في مفهوم العرق، وخاصةً أن لكل فرع من هذه الفئات تاريخ وسياق فريد، وتجميع هذا التنوع في مجموعة عرقية واحدة يعكس تحديات تصنيف الناس بناءً على العرق، حيث يشير إلى أهمية فهم التفاوتات والتعقيدات في تكوين هويات متنوعة داخل مجتمعات معينة.
والأمر الأكثر صدمة هو استثناء العرب من تصنيف العرق السامي، رغم أنهم يمثلون الأغلبية الكبيرة ممن ينحدرون من نسل سام، بعد نجاح البروباغاندا الصهيونية في تحديد العرق السامي بشكل يقتصر على معتنقي الديانة اليهودية، على الرغم من تناقض ذلك مع المنطق والوقائع التاريخية، استطاعت تلك الحملة أيضًا نصب المشانق لكل من جرأ على نقد أو مخالفة المخطط الصهيوني تحت تهمة "معاداة السامية"، وهذه التهمة تعبّر عن التمييز العنصري والتفرقة بين البشر بناءً على العرق أو الدين، مستغلةً القضايا العقائدية في العالم الغربي استنداد الحملة إلى عقدة التمييز العنصري.
وعلى الرغم من أن البحوث التاريخية قد أشارت إلى أن يهود أوروبا قد تسببوا في بعض الأضرار ونشروا السلوكيات غير الأخلاقية، مثل انتشار الربا وتأسيسهم للسوق السوداء وغيرها، إلا أن هذه الجوانب غالباً ما تم حجبها، وركزت الانتباه بشكل أكبر على حق اليهود في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، مع توفير حماية لهم من أي نقد أو لوم أو حتى التشكيك في صحة مطالبهم، ومن بين الشخصيات التي وُجهت إليها اتهامات بمعاداة السامية في العصر الحديث، يبرز السياسي والكاتب الفرنسي "روجيه غارودي" كشخصية بارزة، قرر غارودي اعتناق الإسلام بعد أن كان ينتمي إلى الحزب الشيوعي الفرنسي وكان من أتباع الماركسية، قام غارودي بنفي الرواية الصهيونية لمحرقة النازية لليهود، المعروفة بـ "الهولوكوست"، وقام بالتشكيك في أعداد الضحايا، أيضًا، أشار إلى أن اليهود لم يكونوا الوحيدين الذين تعرضوا للتعذيب والقتل في أفران الغاز النازية.
وقام غارودي بنشر العديد من الكتب التي تناقض الفكر الصهيوني، وخاصة بعد أحداث مجازر "إسرائيل" في حرب لبنان عام 1982، نتيجة لذلك، واجه غارودي العديد من المشاكل، حيث حُكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ، وتم منعه من دخول بعض البلدان والتنقل بحرية بين دول أوروبا، وكانت له تجارب صعبة في وسائل الإعلام الغربية، حيث تعرض لحظر شامل، وفي مجال الفنانين والممثلين، تعرّض الممثل والمخرج الأمريكي "ميل جيبسون" للعديد من التحريضات واتهم بمعاداة السامية نتيجة لتصريحاته المثيرة للجدل حول اليهود، وتصاعدت الحملة الصهيونية ضده بعد قيامه بإنتاج وإخراج فيلم "آلام المسيح"، الذي يسلط الضوء على المؤامرة اليهودية المزعومة لقتل المسيح ومعاناته من التعذيب والصلب.
ويتذكر البعض تصريحًا للممثل الأمريكي الشهير "مارلون براندو"، صاحب دور العرّاب الذي حقق أكثر شهرة في تاريخ السينما الأمريكية، في لحظة صدق عابرة، قال براندو مرةً إن اليهود يسيطرون على عالم السينما في هوليوود، وأنهم يستغلون صناعة الأفلام ويحتكرون الفن، وأضاف إنه يجب على كل من يعمل في هذا المجال أن يكون من "المرضي عنه" حتى ينجح.
في الختام، هذه التصريحات وغيرها الكثير أثارت اهتزازًا في أروقة الكيان الغاصب الذي فضح بجرائمه عالميا، وانعكست تأثيراتها على صوة الإرهاب الإسرائيلي في جميع أنحاء العالم، وإن معاداة السامية تُعَدُّ واحدة من أكبر الأكاذيب التي أعيد إنتاجها في العصر الحديث على يد الصهيونية العالمية، بهدف تحصين الصهاينة من المحاسبة والملاحقة القانونية، وتبرير استخدام القوة ضد من ينتقدهم أو يختلف معهم فكريًا، ويتم استغلال هذه التهمة لوضع الصهاينة في مكانة فوق الجميع، ويُحث كل إنسان حر وذي مبدأ على كشف كذب وتضليل هذه الادعاءات، التي وإن طال الزمن ستبقى باطلة.