الوقت - تتصاعد بشكل يومي الأصوات المنددة بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، إذ اتخذ الكثير من الدول خطوات فعلية لإدانة كيان الاحتلال، وأصدرت البيانات، والاستنكارات، وسجلت مواقف سياسية، وبعض الدول لم تكتفِ بذلك بل اتخذت خطوات عملية تجاه الكيان، من سحب سفراء، ومقاطعة، وصولاً إلى التقدم بطلبات إلى المحاكم والمنظمات الحقوقية الدولية لمحاكمة قادة الكيان على جرائم الحرب المرتكبة في غزة، ومن تلك الدول جنوب إفريقيا التي سجلت موقفا واضحا رافضا للعدوان على غزة، ومؤيدا ومساندا للفلسطينيين، وتعمل للوصول إلى موقف مؤثر، من خلال عضويتها في المنظمات الدولية، فها هي تنادي بمحاكمة الكيان الإسرائيلي بتهمة جرائم الحرب.
قالت منظمة العفو الدولية في شهر فبراير/ شباط من هذا العام إنه "يجب على السلطات الإسرائيلية تفكيك نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الذي يسبب الكثير من المعاناة وإراقة الدماء"، إذ بينت أنياس كالامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أن الأحداث المفجعة التي تجري في فلسطين تكشف مدى التكلفة المميتة لنظام الفصل العنصري، وإن تقاعس المجتمع الدولي عن محاسبة السلطات الإسرائيلية على جرائم الفصل العنصري، وغيرها من الجرائم، قد أطلق لها العنان لعزل الفلسطينيين، وتفرقتهم، والسيطرة عليهم، وقمعهم بشكل يومي، ويساعد في إدامة العنف المميت، فالفصل العنصري جريمة ضد الإنسانية.
جنوب إفريقيا والكيان المحتل.. العلاقة المتينة
شهد العام 1948، ولادة نظام التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا حين خلق الاستعمار البريطاني الظروف الملائمة لممارسة التمييز والتفرقة العنصرية بحق الشعوب والسكان الأصليين، وفي الوقت نفسه شهد إنشاء الكيان الإسرائيلي العنصري على أرض فلسطين، ففي كلتا الحالتين، رأى كل من الحزب الوطني "الأبيض" والحركة الصهيونية نفسيهما على أنهما "صفوة شعوب الأرض" أو "شعب الله المختار"، هاتان المجموعتان وظفتا المفاهيم الإنجيلية والتوراتية لخدمة أطماعهما في الأرض بحيث آمنوا بأن الأرض كانت لهم وأنها الآن "أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض".
فالكيان الإسرائيلي العنصري قد نشأ من خلال ارتكاب سلسلة من المجازر والانتهاكات بحق الكثير من القرى والبلدات الفلسطينية، وتدمير ما يزيد على 530 منها، إذ تم في عام 1948 تهجير ما يزيد على 750 ألف فلسطيني قسراً من منازلهم وقراهم بهدف خلق الظروف الديموغرافية المواتية لإنشاء دولة مقتصرة على اليهود، أما الفلسطينيون الباقون فقد أنكر حقهم في أرضهم دون أي تعويض.
وكذلك احتل المستعمرون البريطانيون والهولنديون أراضي جنوب إفريقيا بالقوة العسكرية والإرهاب المتمثّل بخوض سلسلة من الحروب الهجومية الدموية، فقاموا بالسيطرة على الجنوب الإفريقي وتفريق سكانه في "كانتونات" جغرافية عنصرية، وتشمل هذه القوانين قانون "نظام العبور" للسيطرة على حركة السكان الأصليين وإجبارهم على العيش فقط في أماكن وجودهم أو "معازلهم" المخصصة، التي تشكّل ما نسبته 13 بالمئة من الأرض، التي اعتبرت أنها أراضي السكان الأصليين، وشرّعوا قوانين لضمان تقسيم السكان حسب عروقهم وقبائلهم، وتقسيم المصادر والموارد من قبل الدولة بشكلٍ غير عادل وعلى جميع المستويات الحياتية.
ويبدو الأمر في فلسطين مطابقا للسلوكات العنصرية، فهناك حواجز تفتيش، إغلاق وحصار، جدار الفصل العنصري، مستعمرات، طرق لاستخدام المستعمرين فقط، بطاقات تعريف الهوية، لوحات رقمية ملوّنة للسيارات وتصاريح ذات أصناف مختلفة، تشير بمجموعها إلى تفرقة عنصرية، وكذلك حال "المواطنين من الدرجة الثالثة" من السكان الفلسطينيين القاطنين داخل الخط الأخضر، كما نلاحظ وجود قوانين (مثل قانون "اكتساب الأرض"، وقانون "الدخول إلى إسرائيل"، قانون "الخدمة العسكرية") وكذلك اعتماد تشريعات دينية حاخامية عنصرية فسيطر الكيان من خلال نظام عنف وتفرقة عنصرية ممنهجة، وعمل على تطوير نظام تفرقة معقّد، وأرفقه بنظامه القضائي/القانوني مضاهياً بذلك النظام العنصري في جنوب إفريقيا.
أعلنت شعوب العالم بأن النظام الحاكم في جنوب إفريقيا هو نظام تفرقة عنصرية وعدته جريمة بحق الإنسانية وباشرت بمقاطعة مكثّفة لهذه الدولة العنصرية، لكن الكيان دعم شراكاته التجارية، الثقافية، والعسكرية وروابطه النووية مع نظام الفصل العنصري هناك.
بدأت العلاقات المتينة بين الكيان وحكومة "الأبرتهايد" في جنوب إفريقيا، منذ سبعينيات القرن الماضي حتى إنه كان الوحيد الذي لم يشارك في العقوبات التي فرضها المجتمع الدولي على جنوب إفريقيا عام 1986، ووقع عام 1991 على مذكرة تفاهم مع جنوب إفريقيا لتوسيع التفاهم والتعاون بين البلدين في جميع المجالات، الأمنية والاقتصادية والصناعية والثقافية والسياحية والزراعية والاستثمارات المتبادلة على أعلى المستويات، إضافة إلى التعاون العلمي والتكنولوجي، والمناجم، وتبادل العلماء والمهندسين، وإقامة مصانع مشتركة، وإجراء الأبحاث المشتركة، فضلاً عن التعاون النووي عام 1974، والتوقيع على اتفاق سري للدفاع المشترك، أثمر عن إنتاج 7 قنابل نووية، نقلت للكيان، كما مولت جنوب إفريقيا صناعة وإطلاق قمر صناعي إسرائيلي للتجسس، وزودت الكيان بالمال والسلاح والمتطوعين في عدوان عام 1967.
انهيار العلاقة
تدهورت العلاقات بين كيان الاحتلال وجنوب إفريقيا في مرحلة ما بعد النظام العنصري على خلفية امتعاضها من ممارساته في الأراضي الفلسطينية، وخاصة في أعقاب بناء جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية عام 2004، وكانت في طليعة الدول التي قاطعت منتجات المستوطنات، فقد أصبحت مركزاً للعداء للكيان والدعوة لمقاطعته، ونزع الشرعية عنه، فشعبها يعدّ الكيان غير مرغوب به، حتى إن الطلاب يقاطعونه، كما قطعت جامعة "جوهانسبرج" علاقاتها مع جامعة "بن غوريون".
وقد أعلنت وزيرة خارجية جنوب إفريقيا ناليدي باندور أن بلادها بصدد تقديم التماس إلى محكمة العدل الدولية تطالب فيه بتصنيف "إسرائيل دولة فصل عنصري"، وقبلها دعا رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا المحكمة الجنائية الدولية إلى التحقيق في ممارسات الكيان في فلسطين بوصفها جرائم حرب.
وصوت البرلمان الجنوب إفريقي في 7 مارس/آذار لمصلحة اقتراح تخفيض مستوى سفارة جنوب إفريقيا في "إسرائيل" إلى مستوى مكتب اتصال، ومنذ استدعاء سفير جنوب إفريقيا من تل أبيب عام 2018، تولى القائم بالأعمال إدارة سفارة جنوب إفريقيا هناك.
كما صوّت البرلمان على قرار غير ملزم لإغلاق السفارة الإسرائيلية في البلاد وقطع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب حتى يوافق الكيان على وقف إطلاق النار والمفاوضات.
ومن جهة أخرى اعتمدت أعلى هيئة لصنع القرار في “الكنيسة الأنجليكانية” في جنوب إفريقيا قراراً بإعلان "إسرائيل دولة فصل عنصري” (أبارتهايد)، إذ قررت اللجنة الإقليمية الدائمة، تأييد الموقف الذي اتخذته اللجنة التنفيذية الوطنية لمجلس كنائس جنوب إفريقيا بإعلان “إسرائيل دولة فصل عنصري”، والطلب من رئيس أساقفة الكنيسة، إبلاغ رئيس أساقفة القدس والشرق الأوسط بهذا القرار، بالإضافة إلى التعبير عن الدعم للمؤتمر العالمي لمناهضة الفصل العنصري بشأن فلسطين.
وأشارت اللجنة الإقليمية الدائمة، إلى أن العديد من منظمات حقوق الإنسان العالمية، بما في ذلك منظمة العفو الدولية، و”هيومن رايتس ووتش”، والمؤسسات الحقوقية الفلسطينية، واللجنة التنفيذية الوطنية لمجلس كنائس جنوب إفريقيا، أعلنت أن “إسرائيل دولة فصل عنصري”، وقالت إن مجمع الكنيسة الإصلاحية الهولندية في مقاطعة ويسترن كيب في جنوب إفريقيا، أعرب عن رأيه أيضاً بضرورة إعلان "إسرائيل" “دولة فصل عنصري” .
وأكدت على ضرورة تعزيز زيارات التضامن مع الشعب الفلسطيني، وإدراج زيارة المسيحيين الفلسطينيين للاستماع إلى قصصهم في برنامج رحلات الحج، والحديث عن الاحتلال العسكري لفلسطين ومناقشته مع الحجاج، بما في ذلك أوجه التشابه مع نظام الفصل العنصري الذي شهدته جنوب إفريقيا، مشددة على أن برنامج رحلات الحج، يجب أن يتضمن اجتماعات مع رئيس أساقفة القدس وكبار رجال الدين في فلسطين، بالإضافة إلى زيارة جميع المواقع المسيحية في بيت لحم والقدس والجليل ونهر الأردن.
وكانت “الكنيسة الأنجليكانية” في جنوب إفريقيا قد قررت عام 2019، دعم حملة مقاطعة الكيان الإسرائيلي، وسحب الاستثمارات منه، وفرض العقوبات عليه حتى ينهي احتلاله العسكري لفلسطين.
إن كيان الاحتلال الإسرائيلي ماضٍ في خسارة مؤيديه القلائل، يوماً بعد يوم، فبعد عدوانه الوحشي على قطاع غزة أصبحت محاولاته لتجميل صورته في أعين الشعوب والحكومات في العالم مستحيلة، وهو ما ينبئ بأن الكيان المحتل في طريقه إلى عزلة كبرى ومقاطعة دولية ستجبره على خطوات ما كان ليخطوها سابقا تجاه الفلسطينيين، والأراضي المحتلة.