الوقت - بعد أسبوعين من تحرير مدينة "خرمشهر" في إيران عام 1982، هاجم الکيان الصهيوني جنوب لبنان واحتله، وفي الوقت نفسه دخل الجيش الأمريكي إلى بيروت لتعزيز الاحتلال الصهيوني.
في تلك الأيام، ظن الكثيرون أن لبنان قد انتهى، وأن فصائل المقاومة سوف تستسلم الواحدة تلو الأخرى، وأن سلسلة نزع السلاح ستستمر حتى طهران، لكن حادثةً كبيرةً غيرت قواعد اللعبة.
في 24 أكتوبر/تشرين الأول 1983، وبينما كانت بذور اليأس قد زرعت في جبهة المقاومة، وقع انفجار ضخم فجأةً وحوَّل المركز العسكري الأمريكي إلى كومة من الرماد، وبعد أقل من 5 دقائق انفجرت القاعدة العسكرية الفرنسية أيضاً؛ وكانت نتيجة هاتين العمليتين مقتل 300 جندي أمريكي وفرنسي في أقل من يوم!
لقد أرعبت هذه الخسائر الفادحة الأمريكيين، وكتبت صحيفة نيويورك تايمز في افتتاحيتها أن الجيش تعرض لأكبر ضربة منذ حرب فيتنام، ويجب على الرئيس الاستقالة، ونفس هذه الضغوط السياسية دفعت البنتاغون إلى إصدار أمر إخلاء ليلي لمقر مشاة البحرية، بعد أقل من 24 ساعة من الليلة الدموية في بيروت.
تعرض ريغان لإذلال شديد في تلك الليلة، وکان كينيث بولاك، مدير شؤون الخليج الفارسي في مجلس الأمن القومي الأمريكي، يخبر الرئيس الأمريكي باستمرار بأن حزب الله وإيران يقفان وراء التفجيرات المتسلسلة في بيروت، لكن لا يوجد دليل على ذلك.
كما مارس ريغان ضغوطاً على وكالة المخابرات المركزية لإيجاد علاقة منطقية بين الأطراف الثلاثة، أي طهران وبيروت وقاعدة المحتلين، وقد أحدثت هذه القضية انقساماً قوياً في البيت الأبيض، لدرجة أنه، بأمر من القيادة العسكرية الأمريكية، قصفت سفينة نيوجيرسي بيروت من أجل الحفاظ على المظاهر.
لكن هذه كانت مجرد بداية القصة! حيث دخل الجيش السوري الميدان دفاعاً عن الشعب اللبناني، وأسقط مقاتلتين أمريكيتين بإطلاق عدة صواريخ، وهذه الضربات القاسية جعلت الأجواء السياسية في واشنطن متوترةً مرةً أخرى، لدرجة أن ريغان سحب كل قواته من لبنان دفعةً واحدةً.
في تلك الأيام في طهران، اعتقد البعض أنه من أجل ضرب العدو، من الضروري الدخول مباشرةً في الحرب في جنوب لبنان، لكن الإرشادات الإلهية للإمام الخميني (رحمه الله) وتجارب الحرب مع حزب البعث العراقي، أظهرت أنه إذا تم سوق العدو نحو حروب غير متكافئة، فإنه قد يهرب بضربة بسيطة.
الوضع في قطاع غزة في الأيام الأخيرة، يشبه الهروب الجماعي للأمريكيين من بيروت إلی حد ما، خلال زيارة رئيس وكالة المخابرات المركزية إلى تل أبيب، وعد رونين بار، رئيس جهاز الشاباك، الأمريكيين بأن مستشفى الشفاء هو مكان النصر، وبعد ذلك لن يبقى لحماس شيء على الأرض، لكن الکيان، وبعد تقدمه في الأراضي الخالية، فقد الآن إمكانية الوصول إلى العمق، وقد دار حول قطاع غزة فقط.
يحتاج الجيش الصهيوني إلى دعم جوي للوصول إلى العمق، ولهذا العمل عليه إما تقديم خسائر على الأرض أو مغادرة الموقع، ومن ناحية أخرى، فإن المرونة التكتيكية للمقاومة جعلت القوات تحافظ على تنظيمها القتالي وتثبت، وقد تسبب هذا الوضع في قيام المقاومة التي كان من المفترض تدميرها قبل ثلاثة أسابيع، بضرب قوات الکيان بقوة في منطقة جحر الديك.
وهناك نقطة أخرى جديرة بالملاحظة، وهي تزايد الخلافات في أجهزة المخابرات التابعة للكيان الصهيوني، ويشير التحليل السلوكي للجيش الإسرائيلي، إلى أنه بعد هجوم الکيان على مستشفى الشفاء، لم يعد لدى الكيان الصهيوني أي خطة لمواصلة العملية، وسقط في مستنقع وفشل قاتل في الحسابات.
ويقال إن هناك خلافات عميقة بين الموساد والمخابرات العسكرية للجيش الصهيوني (أمان) حول نوع العملية في غزة، وطرح خطة التبادل مرةً أخرى من قبل الكيان الصهيوني، سببه خلافات داخلية لتجنب الأزمة، وفي هذه المرحلة، من وجهة نظر المقاومة الفلسطينية، لا يمكن الاتفاق على أي شيء حتى يتم الاتفاق على كل شيء.
لكن القضية الأهم في استمرار الحياة المصطنعة للکيان الصهيوني، هي قضية "الحرب الثانية" في الأراضي المحتلة، خلف ساحة المعركة في غزة، تغلي مرةً أخرى طبقات الاحتجاج الاجتماعي السرية، وتتصاعد إلى نقطة ساخنة.
وقد أظهرت مسيرة أكثر من 30 ألف مستوطن في الأراضي المحتلة باتجاه مكتب بنيامين نتنياهو بتنسيق من لابيد، أن الحرب الثانية بين الصهاينة أنفسهم على وشك البدء.
كانت احتجاجات العام الماضي في المناطق المحتلة سياسيةً واجتماعيةً بطبيعتها، لكن الحرب الثانية هي حرب أمنية اجتماعية بطبيعتها وستستمر حتى الانهيار، وفي هذه المرحلة، حتى الإدارة الأمريكية لا تستطيع منع هذا الانهيار الشامل.
والحقيقة أن مصير الحرب لا يتضح من خلال بعض الصور التذكارية للجيش الصهيوني في غزة، وخلافاً لما حدث في 7 شباط/فبراير 1984 في بيروت، هذه المرة، وبعد انفجار أمني واجتماعي، يجب على الأمريكيين أن يأخذوا معهم الصهاينة على متن الطائرات أيضاً!