الوقت- كشفت الإحصائيات الإسرائيلية أن نحو 1800 من يهود روسيا، من بين 5600 شخص استفادوا من قانون العودة، قد عادوا إلى موسكو بعد مرور شهرين من بدء الحرب الأوكرانية. وقاموا بذلك باستخدام جوازات سفر إسرائيلية، وخلال السنوات الأخيرة، شهدت الأراضي المحتلة زيادة ملحوظة في نسب الهجرة العكسية لليهود إلى الخارج، ويمكن تفسير هذا التزايد بسبب العوامل السياسية والأمنية والاجتماعية التي أثرت على الاستقرار في البلاد، ومن بين هذه العوامل تأتي في المقام الأول الانتفاضة الفلسطينية والمقاومة المستمرة ضمن الأراضي التي تم احتلالها في العامين 1967 و1948، وحتى الآن، لم تنجح سياسات التحفيز والترهيب التي اعتمدتها الحكومة الإسرائيلية في وقف تفشي هذه الظاهرة الخطيرة، تمثل هذه الظاهرة تهديدًا لاستدامة الكيان الإسرائيلي واستمراره، وتتجلى بتأثيرها على مجموعة متنوعة من الجوانب السياسية والأمنية والاقتصادية.
حركة "لنغادر البلاد معاً" خطر على الكيان
هذه الهجرة "الانحدارية" أو ما يُعرف بـ "يورديم"، قد أثارت جدلاً كبيرًا ودقت جرس الإنذار بين قادة الكيان السياسيين والعسكريين والخبراء الاستراتيجيين، على الرغم من أن تأثيرها كان محدودًا حتى الآن، إلا أنها بدأت تبرز بشكل أكبر مع توجيه الضوء إلى عوامل قد تزيد من تعقيداتها وانتشارها في المستقبل القريب أو المتوسط، ومن بين هذه العوامل التي تؤثر بشكل بارز، يأتي تنشيط حركة "لنغادر البلاد معاً" في الكيان، حيث قامت بدعم الإسرائيليين الذين يسعون للهروب من التحديات التي تواجه الكيان سواء من تهديدات خارجية أو توترات داخلية، وقد تجلى ذلك في انتقال بعض الإسرائيليين إلى "الاستيطان" في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى تعتبر أكثر أمانًا، وقد تم تحديد حوالي 26 دولة كوجهات محتملة.
وفي سياق نشأة حركة "لنغادر البلاد معاً" الجديدة، هناك نقطتان بارزتان تستحقان الاهتمام، أولاً، يجب التنويه إلى أن أحد مؤسسي هذه الحركة هو رجل الأعمال الإسرائيلي مردخاي كاهانا، الذي كان في الماضي ناشطًا تاريخيًا في تشجيع استيطان المستوطنين الإسرائيليين في فلسطين، ومع ذلك، قد تغيرت مواقفه اليوم، حيث أصبح مقتنعًا بأنه أخطأ في توجيه الهدف والاتجاه الصحيح، وبات يروج لفكرة الرحيل عن "أرض الميعاد"، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، عرض مردخاي مزرعته في الولايات المتحدة على عملائه السابقين كبديل للاستيطان، واعتبر ذلك ضروريًا بسبب التحديات المتزايدة التي تواجه الكيان الإسرائيلي نتيجة تحالف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مع الأحزاب اليمينية المتطرفة، والتي تشير إلى تحويل "إسرائيل" إلى دولة أصولية ذات توجه متطرف.
وفي هذا السياق، وبعد مرور سنوات من تهريب اليهود من مناطق النزاع في اليمن وأفغانستان وسوريا وأوكرانيا إلى "دولة" الاحتلال، قرر رئيس الحركة اليوم دعم الإسرائيليين في الانتقال إلى الولايات المتحدة، حتى إن أعضاء الحزب الإسرائيلي الأمريكي اعتبروه متطرفًا إلى حد ما، لكنه أوضح لهم أن الوقت قد حان لتقديم بديل للحركة الصهيونية في حال استمرار تدهور الوضع، وأكد أنه لا يتمنى تدمير "بلده"، ولكنه يطرح هذا السؤال: "ماذا سيحدث إذا تم تدميره؟!"
وبناءً على تغريدات مؤسسي حركة "لنغادر البلاد معاً"، يتضح أن هدف الحركة هو تشجيع الإسرائيليين على الهجرة العكسية، وتحديداً نقل ما يقرب من عشرة آلاف مستوطن من فلسطين المحتلة إلى الولايات المتحدة كمرحلة أولى، يهدفون إلى تحقيق هذا الهدف كجزء من استراتيجيتهم لإيجاد وطن بديل للصهاينة، نتيجة تدهور الأوضاع السياسية والأمنية داخل فلسطين المحتلة، والسبب الآخر وراء تأسيس حركة "لنغادر البلاد معاً" يتعلق بحالة الانقسام الداخلي والاجتماعي داخل الكيان الإسرائيلي، فهناك صراع طبقي واضح يشهده المجتمع، ولا يمكن القول إن للصهاينة مجتمعًا مثاليًا. بالعكس، إنه مجتمع متشظ ومتقسم، حيث تعيش فيه طبقات مختلفة. يشهد هذا المجتمع تمييزًا عنصريًا بين اليهود من أصل أوروبي والروسيين من جهة، وبين اليهود الفلاشا ذوي البشرة السوداء من جهة أخرى، ويقوم أفراد من هذه الطبقات بالمشاركة في تظاهرات حاشدة تهدف إلى المطالبة بالحصول على الحقوق نفسها التي يتمتع بها الآخرون.
الكراهية تهدد "إسرائيل"
تمثل "الكراهية الأخوية" كما وُصِفت من قبل، دافعًا آخر دفع مردخاي كاهانا إلى تأسيس حركة "لنغادر البلاد معاً"، وهذا حسب قوله.
وكشفت التطورات الأخيرة في الكيان الإسرائيلي، وبالتحديد التظاهرات الشعبية الضخمة التي نظمها معارضون ومؤيدون لما يعرف بـ "الإصلاحات القضائية"، عن مدى خطورة الانقسام المجتمعي الذي يوازي الانقسام السياسي العميق، حتى الآن، لم يتمكن قادة الكيان من معالجة هذا الانقسام أو إنهائه، نظرًا لارتباطه برؤى ومعتقدات جذرية ومصالح متعارضة بين القوى والأطراف المؤثرة في هذا الكيان.
ويشكل هذا الانقسام التحدي الأكبر لاستقرار الكيان، حيث يعكس تقسيم المجتمع إلى جماعات متنازعة آراء ومصالح متعارضة. وهو يضع الكيان أمام تحديات كبيرة في سعيه لإيجاد حل لهذا الوضع المعقد، ويعلق يانيف غوراليك، الذي يدير المجموعة المؤيدة للهجرة المعاكسة على منصات التواصل الاجتماعي، قائلاً: "نظرًا للأحداث الجارية في البلاد، يجب علينا أن نكون مستعدين لاحتمال الانتقال إلى الخارج، البلد لديه أهمية كبيرة بالنسبة لنا، ولكن نحن نشهد ما يجري ونتابع تشكيل الحكومة الجديدة وما ستقوم به"، ويضيف: "أرى وجود كراهية كبيرة بين الإخوة الإسرائيليين"، وأشاهد التوتر المتزايد بينهم وبين الإيرانيين الذين يمتلكون صواريخ دقيقة وموجهة تجاه الكيان، ولقد شهدنا مثل هذا السيناريو قبل مئات السنين، ويبدو أن الإسرائيليين غير قادرين على حكم ذواتهم بشكل دائم، وقد يكون العيش في الشتات هو الحل الوحيد، والهيكل الثاني تم تدميره بسبب الكراهية الشبيهة بتلك التي نشهدها اليوم في عام 2022".
من ناحيته، أشار تسفيكا كلاين، المعلق في صحيفة "جروزاليم بوست" الإسرائيلية، إلى أن أحد اليهود الأمريكيين قد عرض استضافة المهاجرين في كيبوتس على أرضه في نيو جيرسي في الولايات المتحدة، ومن ناحية أخرى، هاجم عضو الكنيست أموشيه سولومون من حزب الصهيونية الدينية المتطرف حركة "لنغادر البلاد معاً"، واعتبر أن قادتها يسهمون في تدمير وطنهم الأم "إسرائيل" من خلال دعوتهم للهجرة.
وأوضح أموشيه: "كان اليهود في الشتات يتعاملون بكل شجاعة مع مظاهر معاداة السامية وتحديات أكثر صعوبة وتعقيداً من الوضع الاجتماعي والاقتصادي لدولة إسرائيل اليوم"، وأضاف: "المجموعة اختارت خيانة الفكرة الديمقراطية المهمة جداً، وهي التمسك بالرؤية الصهيونية التي كانت نوراً لمئات الجاليات اليهودية في الشتات على مرّ الزمن".
الهجرة المعاكسة تصفع تل أبيب
في إطار الهجرة المعاكسة التي تنشط حركة "لنغادر البلاد معاً" وتسعى لتوسيع نشاطها بشكل علني، كشفت إحصائيات إسرائيلية مثيرة أنه بعد مرور شهرين على بدء الحرب الأوكرانية، عاد نحو 1800 يهودي روسي من بين 5600 يهودي استفادوا من قانون العودة إلى روسيا، وقد انتقلوا إلى موسكو واستخدموا جوازات سفر إسرائيلية في هذا السياق، وهذا يشير إلى أن ثلث اليهود الروس الذين وصلوا إلى كيان الاحتلال سرعان ما قرروا المغادرة، بعد الانتخابات التي جرت في تشرين الثاني الماضي وأسفرت عن تشكيل أكثر حكومة تطرفًا في تاريخ الكيان.
وبالتالي، زاد الإقبال على الحصول على جنسيات أوروبية بين الإسرائيليين، وسُجل أعلى معدل لتقديم الإسرائيليين طلبات للحصول على الجنسية الفرنسية، حيث ازدادت نسبتها بنسبة 13%، كما شهدنا زيادة أخرى في نسبة طلبات الهجرة إلى دول الاتحاد الأوروبي بشكل عام، حيث سُجِّلت زيادة بنسبة 68% في طلبات الحصول على الجنسية من إسرائيليين في البرتغال، وارتفعت طلبات الحصول على الجنسية في بولندا وألمانيا بنسبة 10% خلال الفترة نفسها.
وفي السياق نفسه، أظهرت بيانات وزارة الهجرة والاستيعاب الإسرائيلية والوكالة اليهودية انخفاضًا حادًا في معدل الهجرة إلى فلسطين في النصف الأول من هذا العام، حيث انخفضت نسبة استقدام اليهود من أمريكا وأوروبا بنحو 20%.
ووفقًا لتقديرات المحللين، يُعزى هذا الانخفاض إلى تصاعد التوتّر الأمني والمقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، ما أسفر عن مقتل 29 إسرائيليًا، ويشمل غالبيتهم المستوطنين وجنود الاحتلال، إضافة إلى ذلك، تأثرت الأراضي الفلسطينية المحتلة بخطة حكومة بنيامين نتنياهو لإجراء تعديلات في الجهاز القضائي، ما أدى إلى تقليل جاذبيتها كوجهة مرغوبة للهجرة، وحسب استطلاع للرأي العام، يفكر نحو 33% من سكان كيان الاحتلال في الهجرة والانتقال للعيش في أوروبا وأمريكا نتيجة لنيّة الحكومة المتطرّفة في تحويل الكيان إلى دولة ديكتاتوريّة قائمة على الشرع اليهودي والفوقيّة اليهوديّة.
وفي الآونة الأخيرة، رصدت وسائل الإعلام الإسرائيلية بيانات غير معلنة عادة من سلطة السكّان والهجرة الإسرائيلية تُظهر عددًا متزايدًا من طلبات الحصول على الجنسية الأجنبية وامتلاك جواز سفر ثانٍ بين الإسرائيليين، إضافة إلى الدول المُفضّلة لديهم للهجرة، وبناءً على هذه البيانات، بدأ عدد كبير من الإسرائيليين عمليات الهجرة إلى دول مثل إسبانيا والبرتغال والولايات المتحدة، وحتى ألمانيا، ويُلاحظ أن "عدوى" الهجرة المعاكسة أصبحت تشمل فئات مختلفة من المجتمع، سواء من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية، بما في ذلك أصحاب الثروات والشركات وأصحاب التخصصات العلمية والطبية العالية، كما تشير الإحصائيات الرسمية وغير الرسمية.
وفي ضوء كل ما تم ذكره، لا يُعد من الغريب أن تثير الهجرة العكسية من "إسرائيل"، والتي أصبحت مؤدلجة ومنظمة بشكل أكبر مع ظهور حركة "لنغادر البلاد معاً"، مخاوف حقيقية لدى القيادة الإسرائيلية، إذ تواجه "إسرائيل" مجموعة من التحديات الداخلية والخارجية في هذا السياق، بما في ذلك التهديد الديموغرافي الناجم عن زيادة أعداد الفلسطينيين، وانخفاض عدد اليهود المنخرطين في الخدمة العسكرية، وتصاعد الصراع السياسي والميداني مع الشعب الفلسطيني والمحور المقاوم، والتطبيع مع ظاهرة "يورديم" نفسها والتي يمكن أن تؤدي إلى مزيد من الهجرات العكسية في المستقبل.
وكل هذا يأتي في وقت تشير فيه التوقعات الإسرائيلية إلى أن الهجرة من المجتمعات اليهودية في الشتات قد تكون منخفضة في المستقبل المنظور، إذ إن "إسرائيل" لم تعد اليوم "كيان هجرة" كما كانت عليه في العقود الخمسة الأولى من تاريخها، ويبدو أن الحكومة الإسرائيلية، التي أعلنت نيّتها العمل على تشديد شروط الحصول على جوازات السفر الإسرائيلية بهدف جعلها أكثر صعوبة، قد تسبب في زيادة نفور المهاجرين الجدد من التزامهم بالبقاء في فلسطين.