الوقت_ مؤخراً، التقى الرئيس السوري بشار الأسد مع ممثل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة الطارئة مارتن غريفيث، وانتشرت عبارة "لا تسيّسوا قضية اللاجئين السوريين" بشدة نقلا عنه، حيث طالب الرئيس السوري الأمم المتحدة بعدم السماح لقضية اللاجئين السوريين بأن تصبح لعبة سياسية، فيما أعلنت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا)، أن الأسد ناقش مع المبعوث الأممي أحدث الجهود والمشاريع المقدمة لعودة اللاجئين السوريين واحتياجاتهم، والتي شهدت بؤرة اشتعال في أسوأ أزمة إنسانية منذ أهوال الحرب العالمية الثانية، ولم تفلح الجهود العربية والدولية في أي حل ولو جزئي في تلك القضية، بسبب العراقيل الإقليمية والمحلية والدولية التي حالت دون إنهاء إراقة الدماء في سوريا وتحسين وضعها الإنساني، في وقت تشكل فيه أزمة اللاجئين السوريين واحدة من أهم القضايا في هذا الشأن.
تسييس قضية اللاجئين السوريين
بشدّة، ركّز الرئيس السوري بشار الأسد في الاجتماع الذي عقد مع المبعوث الأممي حول قضية اللاجئين في دمشق، على أهمية عدم تسييس قضية عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وأضاف إن عودة اللاجئين إلى بلادهم هي الهدف الأسمى للحكومة السورية ومع ذلك، تحدث أن تحقيق ذلك يرتبط ارتباطا وثيقا بتوفير احتياجات إعادة الإعمار، فقد ألحقت الحرب أضرارا بالمنشآت في القرى والمدن التي سيعود إليها اللاجئون، كما أكد الأسد لممثل الأمم المتحدة أن الحكومة السورية اتخذت العديد من الإجراءات لمساعدة اللاجئين على العودة وما زالت تعمل على توفير المتطلبات الأساسية لتوطين هؤلاء اللاجئين بعد عودتهم وتقديم التسهيلات لهم.
أما عن جريفيث فقد أوضح في هذا الاجتماع خارطة طريق المنظمة الدولية للمرحلة المقبلة لدعم مشاريع تحسين الأوضاع في سوريا وحشد الجهود للمساعدة في توفير الظروف المناسبة لعودة اللاجئين إلى بلدهم، فمنذ عام 2011، امتدت العواقب الإنسانية للأزمة السورية إلى العديد من دول الشرق الأوسط، لكن لم تكن هناك استجابة جماعية إقليمية - إلى حد كبير بسبب التشرذم السياسي والتنافس الكبير، وأحد الأمثلة المدهشة على هذه الديناميكيات هو الجمود الذي عانت منه جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي ومجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، حيث فشلوا مرارًا وتكرارًا في تقديم ردود فعالة على القضايا الإقليمية مثل الاضطرابات في اليمن وليبيا أو صعود الجماعات المتطرفة في العراق وسوريا، وكانت أزمة اللاجئين السوريين أحد أبرز تلك القضايا.
وقبل أن تعود المياه إلى مجاريها، قلصت جامعة الدول العربية تدخلها لدعم جهود المجتمع الدولي للتخفيف من تأثير أزمة اللاجئين، أما مجلس التعاون الخليجي، فقد طغى على أفعاله خلاف داخلي وتورط بعض العواصم في مستنقع الأزمة السورية،وهذا يعني أن العبء الإنساني لا يزال يتحمله اللاجؤون السوريون ومن يستضيفهم، وربما توقع البعض تضامنًا عربيًا في مواجهة أزمة نشأت في سياق أزمات عربية شبيهة، لكن حتى في الدول العربية التي استضافت الجزء الأكبر من اللاجئين من سوريا، مثل الأردن ولبنان، نأت الحكومة والشعب بأنفسهم عن أشقائهم العرب مع استمرار الأزمة.
ولا تزال الحدود الوطنية في الشرق الأوسط التي رسمها المحتلون بعد الحرب العالمية الأولى موضع نزاع من قبل الحركات القومية العربية والقومية الإسلامية والقومية الكردية، ومع ذلك ، أظهرت أزمة اللاجئين السوريين كيف أن هذه الحدود والهويات الوطنية هي محركات قوية للسياسة اليومية، وقد شكل موقف الحكومتين في الأردن ولبنان من الصراع السوري سياسة البلدين تجاه اللاجئين، ما بدأ كسياسة للأبواب المفتوحة تطورت عندما فُرضت قيود على دخول السوريين والإقامة في كلا البلدين، بعد ذلك، بدأ الأردن ولبنان التعاون مع المجتمع الدولي للتخفيف من أزمة اللاجئين في أوائل عام 2016، وفي النهاية بدأ التشجيع النشط على عودة اللاجئين إلى سوريا منذ عام 2018.
ولا شك أن النخب الحاكمة في لبنان استفادت من الأزمة الإنسانية من خلال تصوير اللاجئين السوريين على أنهم تهديد أمني، وقد خلق هذا بدوره شعوراً بالإلحاح ما شجع على تدفق المساعدات الخارجية إلى البلاد في محاولة لتحقيق الاستقرار، لكن هذه المساعدات الخارجية وقعت في فخ الفساد ، ولا يزال اللاجئون السوريون محاصرين ومهمشين بسبب سياسة تقاسم السلطة في لبنان، كما لعبت وسائل الإعلام أيضًا دورًا مهمًا في تشكيل النظرة إلى اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان من خلال نشر رواية ذات شقين رعتها الحكومة حول الأزمة، ومن جهة، حاولت هذه الرواية طمأنة اللبنانيين بإحساس الحياة الطبيعية وتعزيز الصبر والقوة المجتمعية، ومن ناحية أخرى، صوّرت الحكومة أزمة اللاجئين على أنها حالة طوارئ لإقناع المانحين الدوليين بتوجيه المساعدات الإنسانية إلى البلاد، لكن كانت الرواية الثانية هي المهيمنة، ما تسبب في ارتباك بين اللبنانيين والأردنيين الذين بدؤوا يطالبون بنصيبهم من المساعدات الخارجية.
ووسط هذا المشهد الإقليمي المجزأ وتسييس الأزمة على المستويين الإقليمي والوطني، لا يزال مصير اللاجئين السوريين غير واضح، وقد عرضت روسيا في السابق تسهيل الحوار بين الدول المضيفة - لبنان بشكل أساسي - وسوريا فيما يتعلق بعودة السكان السوريين، لكن عملية عودتهم المستمرة إلى وطنهم قد تعرقلها التفاهمات السياسية وتسييس تلك القضية كما قال الرئيس الأسد.
وبالتالي، ستكون العودة الآمنة للاجئين السوريين مقيدة أيضًا بالتغييرات الديموغرافية التي أطلقتها الحكومة التركية في سعيها للقضاء على الوجود الكردي على طول حدودها، كما يتم تخويف بعض العائدين الذين يشعرون بالخطر ربما بسبب سياسات الإعلام في تخوييف أولئك الذين شارك بعضهم في الأحداث السورية، أو أولئك الذين لم يستجيبوا لنداء التجنيد أثناء الحرب، أو أولئك الذين يمتلكون عقارات في مناطق سيطرة المسلحين سابقًا، ما يعني أنه ستبقى أزمة اللاجئين السوريين ورقة رئيسية في أيدي الدول المتورطة عسكريًا في الصراع والدول المضيفة للاجئين، أما بالنسبة للاجئين السوريين أنفسهم، فإن حياتهم وحقوقهم ومستقبلهم محفوفة بالمخاطر، ويظلون الضحايا الأساسيين للتنافس الإقليمي والصراع على النفوذ.
خطورة أوضاع اللاجئين السوريين
بعد اثني عشر عامًا على اندلاع الأحداث عام 2011 في سوريا، وما تلاها من حرب حرقت الأخضر واليابس، جرى بحق اللاجئين والمدنيين جرائم لا عد لها ناهيك عن تكتيكات الحصار وجرائم حرب أخرى لا حصر لها، حيث قُتل مئات آلاف المدنيين، وتشرد غالبية سكان البلاد، بما في ذلك أكثر من 6.8 ملايين لاجئ، لكن حتى مع قيام اللاجئين ببناء حياة جديدة في الخارج، فإن معظم السوريين في تركيا ولبنان والأردن - الدول الإقليمية الرئيسية المضيفة - مهمشون اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا بدرجات مختلفة، حيث تبلغ نسبة اللاجئين في المنطقة أكثر من 70٪ وتتفاقم أزمة الفقر بسبب الأزمات الاقتصادية المحلية المتفاقمة، وأدى تسييس وجود اللاجئين في كل بلد إلى ترك العديد من السوريين في أوضاع قانونية هشة ومنع الاندماج الدائم، وتثير الجهود التي تبذلها دمشق لتطبيع العلاقات الدبلوماسية الإقليمية - التي تسارعت بعد الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا في 6 شباط / فبراير – مخاوف المستفيدين من قضية اللاجئين، وبالتالي التسييس الأعمى لتلك القضية المهمة.
وفي لبنان وتركيا على وجه الخصوص، يواجه السوريون سياسات حكومية معادية بشكل متزايد ورأي عام متزايد مناهض للاجئين، ولطالما جعلت أحزاب المعارضة التركية من إعادة اللاجئين السوريين عنصراً أساسياً في أجنداتها وتؤجج المشاعر الشعبية المناهضة لسوريا قبل الانتخابات الرئاسية في 14 مايو / أيار، وقد تخلى الرئيس رجب طيب أردوغان عن خطاب حكومته الودية سابقًا، وتعهد في عام 2022 بإعادة مليون لاجئ إلى شمال سوريا، وفي لبنان، واجه السوريون ارتفاعًا في عمليات الترحيل التعسفي - بما في ذلك مداهمات الجيش اللبناني الشهر الماضي.
ولكن حتى في مواجهة التمييز المتزايد، لا يعتزم أكثر من 70٪ من اللاجئين السوريين العودة إلى سوريا في غضون السنوات الخمس المقبلة- لسبب رئيسي هو أن الكثيرين لا يستطيعون العودة إلى ديارهم التي دمرتها الحرب، ومع وصول النزوح السوري إلى عامه الثالث عشر ، يحتاج المانحون والدول المضيفة ومنظمات المجتمع المدني إلى التفكير بشكل خلاق لتجنب العواقب البشرية والتنموية والأمنية طويلة المدى لتهميش اللاجئين السوريين في الشرق الأوسط.
وفي بداية الحرب في سوريا، فتحت الدول المجاورة أبوابها أمام السوريين الفارين من العنف المتزايد، ونجحت المجتمعات المحلية والجهات الفاعلة الدولية والحكومات المضيفة في تلبية احتياجات ملايين النازحين حديثًا وتوسيع الخدمات العامة، في حين كانت الحكومة اللبنانية معادية نسبيًا للسوريين منذ البداية، نفذت تركيا والأردن مبادرات لتمكين اللاجئين من المشاركة في سوق العمل وتوسيع الخدمات، ومنحت تركيا الجنسية لأكثر من 200 ألف لاجئ، لكن اليوم، لدى جيران سوريا سياسات وخطابات مختلفة بشدة تجاه اللاجئين، والعامل المشترك هو أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي - السياسي للاجئين يزداد سوءًا ولا يتحسن.
وكانت بيئة السياسات الخاصة باللاجئين في الأردن أكثر ترحيبًا نسبيًا، ويرجع ذلك جزئيًا إلى العلاقات الغربية القوية للبلاد، حيث سن الأردن برامج طويلة الأجل مثل ميثاق الأردن لعام 2016 الذي يوفر تصاريح عمل ويوسع الوصول إلى التعليم لأكثر من 660 ألف لاجئ سوري مسجل مقابل دعم دولي وامتيازات اقتصادية للشركات الأردنية، ومع ذلك، فإن السوريين في الأردن مقيدون بمهن محددة، وقد كافح ميثاق الأردن لتحقيق أهداف تصاريح العمل ونمو القطاع الخاص، وتذبذبت سياسات الوصول إلى الخدمات مثل الرعاية الصحية، ولم تُترجم المساعدات إلى شمول اقتصادي - أكثر من 80٪ من اللاجئين السوريين في الأردن خارج مخيمات اللاجئين يقعون تحت خط الفقر.
وأخذ السياسيون اللبنانيون على نحو متزايد كبش فداء لأكثر من 800 ألف لاجئ في البلاد بسبب عواقب الجمود السياسي والفساد، وسعت الحكومة مرارًا وتكرارًا إلى الترحيل الجماعي للسوريين - الذين أعاقتهم الضغوط الدولية في المقام الأول - ويواجه اللاجئون الترحيل التعسفي والاستبعاد الاجتماعي والاقتصادي العميق، ومع تراجع الاقتصاد الحر منذ عام 2019، يعاني 9 من كل 10 لاجئين سوريين من الفقر، إلى جانب تزايد الفقر بسرعة بين المواطنين اللبنانيين. لجأ بعض اللاجئين إلى TikTok للتبرعات، التي يسّرها رجال الأعمال الاستغلاليون.
أيضاً، تؤوي تركيا أكثر من 3.4 ملايين لاجئ سوري مسجل وهي أكبر دولة مضيفة للاجئين في العالم، وقد رحبت حكومة أردوغان في البداية باللاجئين، ووفرت لهم الوصول المجاني إلى الرعاية الصحية والتعليم، على الرغم من أنها فرضت قيودًا على التنقل تقصر اللاجئين على المقاطعة التي يسجلون فيها، ومع ذلك، فإن المشاعر الشعبية المعادية للاجئين والخطاب السياسي ضد السوريين قد ازدادت سوءًا، وقد أدت الأزمة الاقتصادية الأوسع نطاقًا التي تواجه تركيا إلى دفع المزيد من اللاجئين إلى براثن الفقر .
إضافة إلى ذلك، أدت الزلازل والانتخابات التركية إلى زيادة تعقيد مستقبل اللاجئين السوريين في تركيا وفي جميع أنحاء المنطقة، وبعد الزلازل، تجلت المشاعر المعادية للاجئين في تركيا في سيل من الشائعات على وسائل التواصل الاجتماعي بأن السوريين ينهبون المساعدات، ما أدى إلى زيادة التوترات الاجتماعية والتمييز ضد السوريين من قبل السلطات الحكومية، كما تتعرض قضية اللاجئين اليوم لتسييس كبير خلفه الكثير من الأطراف.
ومع ذلك، كما تشير استطلاعات الرأي الخاصة بالسوريين، من المرجح ألا يترجم التطبيع إلى عودة طوعية واسعة النطاق نظرًا لاستمرار العنف والأزمة الاقتصادية وقلق العودة إلى سوريا، حيث أعاد الأردن الانخراط في سوريا تدريجياً منذ عام 2017، لكن قلة من اللاجئين عادوا بالفعل بسبب استمرار انعدام الاستقرار، وبدت الحكومة السورية نفسها راغبة في قبول اللاجئين لكنها في حالة ضعف في تأمين احتياجاتهم لوحدها في ظل الوضع الحالي في البلاد، في الوقت الذي تتزايد فيه عمليات التسييس والترحيل في جميع أنحاء المنطقة.
وبدلاً من ذلك، أصبح السوريون طبقة دنيا اقتصادية واجتماعية وسياسية شبه دائمة في البلدان المضيفة لهم، وغير قادرين على العودة إلى ديارهم وواجهوا استبعادًا متزايدًا أثناء نزوحهم، وهذا النهج له عواقب إنسانية وخيمة - على جيل الأطفال اللاجئين الذين يعانون من محدودية الوصول إلى المدرسة، وعلى الصحة العقلية والمستقبل الاقتصادي لكل من العائلات السورية والمجتمعات المضيفة التي لا تحظى بالدعم الكافي، وستكون العواقب على الاستقرار والأمن كبيرة أيضًا، ولا سيما إذا ركزت الدول الغربية بشكل أساسي على إنفاذ الحدود لمنع الهجرة بدلاً من دعم اللاجئين والدول المضيفة.
في النهاية، إنّ حل مشكلة تسييس قضية اللاجئين أبسط مما نعتقد في حال كانت الإرادة الدولية تنوي ذلك، وتتطلب الاستراتيجية الحالية إعادة تفكير جادة من خلال عدة نقاط:أولاً من الضروري الانتقال الكامل إلى النهج طويل الأجل في تقديم المساعدة والدعم الاقتصادي للاجئين الذين ينوون إعادة بناء منازلهم التي دمرتها الحرب، كما يعد تسهيل النمو الاقتصادي الشامل في سوريا وعمل اللاجئين أمرًا بالغ الأهمية، وهناك حاجة إلى مزيد من مشاركة المسؤولين المحليين ومنظمات المجتمع المدني الأكثر استعدادًا لدعم اللاجئين في مجتمعاتهم، ويجب على المجتمع الدولي والحكومة أن يفيا بالوعود التي قطعاها بشأن مسارات تأمين اللاجئين وكذلك توسيع مسارات اليد العاملة، لكن للأسف يواجه اللاجئون السوريون والمجتمعات المضيفة في الشرق الأوسط مستقبلًا قاتمًا للغاية.