الوقت- همسات تحالف دول العالم المختلفة لتقليل هيبة ومكانة الدولار في العلاقات الاقتصادية العالمية تسمع بصوت أعلى من ذي قبل. ولكن الأبرز فيما يتعلق بجهود دول العالم المختلفة لتقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي كان ما قاله إيمانويل ماكرون بعد عودته من بكين إلى باريس ، في مقابلة مع وسائل الإعلام "السياسية" وهو أن على أوروبا أن تقلص اعتمادها على الدولار الأمريكي.
كما حذر من اعتماد أوروبا على الطاقة والأسلحة الأمريكية وقال: "نحن نعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة فيما يتعلق بالأسلحة والطاقة، ويجب أن نركز على تعزيز صناعة الدفاع في أوروبا".
في مقابلة بوليتيكو الأخيرة التي أجراها ماكرون، حظيت مسألة الحد من اعتماد أوروبا على الدولار باهتمام وسائل الإعلام والعديد من المحللين السياسيين والاقتصاديين أكثر من قضايا استقلال أوروبا عن الأسلحة والسياسات والطاقة الأمريكية. من أجل فهم أكثر دقة لمسألة تقليل اعتماد أوروبا على الدولار الأمريكي، من الضروري أيضًا فحص الجوانب المختلفة لوجهة النظر هذه، دعونا نلقي نظرة على تصريحات ووجهات نظر ماكرون خلال زيارته للصين. في مطلع أبريل، في اليوم الأول من زيارته للصين، كتب إيمانويل ماكرون على تويتر: لقد توصلت إلى استنتاج مفاده أن الصين لها دور كبير في إرساء السلام. لهذا السبب جئت إلى الصين للمضي قدمًا. سأتحدث أيضًا مع شي حول الأعمال والمناخ والتنوع البيولوجي والأمن الغذائي. سافر إلى الصين في حين رافقه في هذه الزيارة العشرات من رجال الأعمال الفرنسيين. وهي قضية لم تختف عن أعين وسائل الإعلام والمحللين وتظهر تركيز فرنسا على الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع الصين وتعزيزها. إن تفاعل فرنسا الاقتصادي مع الصين وتوسعها ليس قضية يمكن تجاهلها بسهولة. في وضع يلقي فيه الاقتصاد الصيني الاقتصاد الأمريكي بظلاله وتجاوزه في بعض المجالات.
توصل المسؤولون الفرنسيون، وعلى رأسهم إيمانويل ماكرون، إلى استنتاج مفاده أنه من خلال الحفاظ على الاستقلال السياسي وعدم اتباع سياسات واشنطن تجاه الصين، وخاصة في قضية تايوان، ينبغي عليهم سحب أقدامهم من نطاق التوتر والصراع بين بكين وواشنطن، وذلك لضمان أقصى قدر من الاستقلال الاقتصادي من خلال الترويج التدريجي لمستوى العلاقات السياسية والاقتصادية مع الصين واعتمادها على الدولار والتجارة مع أمريكا. في مثل هذا الجو حيث يتناغم الحلفاء الغربيون المهمون للولايات المتحدة لتقليل الاعتماد على الدولار، يمكننا بالفعل سماع صوت انخفاض مكانة الدولار من قاعدة العلاقات الاقتصادية العالمية.
تأتي سياسة فرنسا الجديدة لتقليل الاعتماد على الدولار في وقت أعلنت فيه عدة دول في وقت سابق عن سياساتها وخططها لتقليل الاعتماد على الدولار، بما في ذلك العراق وباكستان والدول الأعضاء في الآسيان، وهي من بين الحكومات التي تفضل استخدام العملة بخلاف استخدام الدولارات في المعاملات التجارية والمالية. إيران التي كانت لديها مثل هذا المثل الأعلى منذ سنوات، لكن من المثير للاهتمام أن البرازيل والعراق والمملكة العربية السعودية وسريلانكا وباكستان بدؤوا بالتمرد على هيمنة الدولار بينما يحاول الصينيون جعل اليوان عملة قوية، وبهذه الطريقة يشجعون الدول على التخلي عن الدولار. الآن حل اليوان محل الدولار الأمريكي باعتباره العملة الأكثر تداولًا في روسيا. في هذا السياق، قررت حكومتا الصين والبرازيل مؤخرًا التخلي عن الدولار. كما استبعدت الصين الدولار من التجارة الثنائية مع باكستان وعدة دول أخرى. ويخطط اتحاد الآسيان أيضًا لإزالة الدولار واليورو والين والجنيه الإسترليني من تبادلاته التجارية لتجنب التوترات الجيوسياسية.
حرب تجارية
حرب تجارية اندلعت بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بسبب تفاقم الخلاف الأوروبي الأمريكي التجاري حول دعم واشنطن لصناعة السيارات المحلية، وسط مساعٍ من قبل فرنسا للتصعيد، حيث تقود خطاً متشدداً ضد واشنطن يتهمها باستغلال الحرب الأوكرانية لصالحها ولوحت برفع شكوى أوروبية لمنظمة التجارة العالمية وفرض قيود على التجارة.
ويثير صوت فرنسا الأعلى في هذه الحرب استياءً أمريكياً على ما يبدو، لدرجة أن صحيفة Politico الأمريكية قالت إن باريس تلعب دور الشرطي السيئ في الخلاف الأوروبي الأمريكي التجاري.
وفي هذا السياق اتهم الرئيس إيمانويل ماكرون واشنطن بالحمائية، وهدد بتعزيز دفاعات الاتحاد الأوروبي التجارية، كما لوح وزير المالية الفرنسي برونو لو مير برفع شكوى أوروبية ضد الولايات المتحدة بسبب الخلاف الأوروبي الأمريكي التجاري الذي تصاعد جراء قانون خفض التضخم الأمريكي الجديد (IRA) الذي تقول باريس إنه يمثل تهديداً كبيراً للشركات الأوروبية.
ورغم أن الحرب الأوكرانية يبدو أنها وحدت الغرب تحت قيادة أمريكا، ضد خصومه مثل روسيا وحتى الصين، ولكن الخلافات عادت للظهور من جديد، لأن الاتحاد الأوروبي غاضب من أن الولايات المتحدة تضخ إعانات في صناعة السيارات الكهربائية المحلية، وتهدد أوروبا الآن ببناء جدران حمائية خاصة بها.
ودعا الرئيس الفرنسي الاتحاد الأوروبي إلى دعم المستهلكين والشركات التي تشتري السيارات الكهربائية المنتجة في الاتحاد الأوروبي، بدلاً من تلك التي تأتي من خارج الكتلة على غرار ما ستفعله الولايات المتحدة.
وانضمت اليابان إلى الاتحاد الأوروبي في وصف المساعدة الأمريكية المخطط لها لمصنعي السيارات الكهربائية المحليين بأنها "تمييزية"، وطالبت بمعاملة متساوية لشركات صناعة السيارات الخاصة بها، حسب تقرير لصحيفة Taipei Times.
وهناك اعتقاد في أوروبا تقوده باريس وهو موجود أيضاً لدى بعض حلفاء أمريكا الآخرين مثل اليابان وكوريا أن واشنطن تستغل الحرب الروسية ضد أوكرانيا والحرب التجارية الغربية ضد الصين لصالحها، وعلى حساب حلفائها الذين تدعوهم في الوقت ذاته للتضحية بمصالحهم الاقتصادية لإحكام الخناق حول موسكو وبكين.
فالسياسات التجارية التي سنتها إدارة بايدن لتعزيز التصنيع المحلي وتضييق الخناق على تجارة التكنولوجيا مع الصين يبدو أنها تدق إسفيناً بين واشنطن وأهم حليف لها الاتحاد الأوروبي.
تفاصيل القانون الأمريكي الذي أغضب أوروبا
جاءت التهديدات الفرنسية كرد فعل ضد قانون خفض التضخم الأمريكي. واعتبرت صحيفة Politico الأمريكية أن "ماكرون يلعب دور الشرطي السيئ، مقارنة بالمفوضية الأوروبية، التي تبدو أقل حدة في موقفها من واشنطن تاركة لها بعض المساحة السياسية لإجراء تعديلات على سياستها التجارية".
ولكن رغم أن فرنسا الأعلى صوتاً ولكن موقفها يعكس قلق الاتحاد الأوروبي برمته بشأن قانون خفض التضخم، الذي سنته واشنطن مؤخراً والذي يحفز المستهلكين الأمريكيين على "شراء السيارات الأمريكية الصنع الصديقة للبيئة، ويجادل الاتحاد الأوروبي بأن اشتراط القانون أن تحتوي السيارة على بطارية بها نسبة معينة من المحتوى المحلي يميز ضد الاتحاد الأوروبي والشركاء التجاريين الآخرين".
وقال وزير المالية الفرنسي برونو لو مير إن قانون خفض التضخم الأمريكي الجديد (IRA) يمثل تهديداً كبيراً للشركات الأوروبية، وأن على الاتحاد الأوروبي الوقوف بحزم ضد القانون الذي وصفه بأنه "غير مقبول".
واشنطن استفادت من الحرب الأوكرانية التي أغرقت أوروبا
لكن نهج "اشترِ المنتجات الأمريكية" ليس هو موضع الخلاف الوحيد. وأدت حقيقة أن أوروبا تعتمد بشكل متزايد على واردات الغاز من الولايات المتحدة إلى نقل السخط الأوروبي إلى المستوى التالي.
فهناك أسباب وجيهة تجعل الأوروبيين قلقون بشأن موازينهم التجارية مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أحدثت الحرب صدمة هائلة في معدلات التبادل التجاري بين أوروبا وأمريكا، إذ دفعت تكاليف الطاقة المتصاعدة الاتحاد الأوروبي إلى تسجيل عجز تجاري ضخم على مستوى الكتلة بلغ 65 مليار يورو في أغسطس/آب 2022، من 7 مليارات يورو فقط في عام2021.
وأدى اعتماد أوروبا المتزايد على الغاز الطبيعي الأمريكي المسال كبديل للإمدادات الروسية المفقودة إلى إعادة إشعال الخلاف التجاري الأوروبي الأمريكي.
باريس تقود الجناح المتشدد الأوروبي ضد أمريكا
ولطالما كانت فرنسا أكثر دول الكتلة صراحة عندما يتعلق الأمر بمواجهة واشنطن في مجموعة واسعة من الملفات التجارية، وخاصة أنها ليست مصدراً كبيراً لأمريكا مثل ألمانيا.
ولعبت باريس، على سبيل المثال، دوراً رئيسياً في عدم إبرام اتفاقية التجارة عبر الأطلسي بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التي كانت تسمى "TTIP" كما أغضبت الضرائب الرقمية لفرنسا شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى وأثارت حرباً تجارية مع إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب.
في الآونة الأخيرة، خلال رئاستها الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي، ركزت باريس على تدابير الدفاع التجاري، والتي ستمنح بروكسل سلطة الرد على الإجراءات التجارية الأحادية، بما في ذلك من الولايات المتحدة.
على الرغم من انخفاض أسعار استيراد الغاز في سبتمبر/أيلول من أعلى مستوياتها على الإطلاق في أغسطس/آب 2022، إلا أنها لا تزال أعلى بمقدار 2.5 مرة مما كانت عليه قبل عام. ومع الأخذ في الاعتبار حجم الشراء المتزايد، تضاعفت فاتورة فرنسا لواردات الغاز الطبيعي المسال أكثر من عشرة أضعاف في أغسطس/أب، على أساس سنوي، وفقاً لأحد التقديرات.
وحذر وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي برونو لومير من أن حرب روسيا ضد أوكرانيا يجب ألا تؤدي إلى "الهيمنة الاقتصادية الأمريكية وإضعاف أوروبا".
هدوء أمريكي حذر
تتمسك الإدارة الأمريكية بهدوئها حتى الآن فى مواجهة تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون الذى دعا فيها أوروبا إلى عدم التبعية لأمريكا. المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي قال إن أمريكا لديها الثقة الكاملة في علاقتها الثنائية الممتازة مع فرنسا، وفي العلاقة الجيدة التى تربط الرئيسين بايدن وماكرون..
لكن «الغضب الأمريكي» كان واضحاً في ردود نواب الكونجرس من الحزبين، وفي الصحافة والإعلام. «نيويورك تايمز» قالت بوضوح «إن زيارة ماكرون للصين تدعم الجهود الأمريكية لاحتواء نفوذ النظام الاستبدادي الذي يقوده الرئيس الصيني»، بينما كانت التعليقات تركز على أن ماكرون لا يمثل أوروبا، وأن أوروبا هي التي تحتاج لأمريكا وليس العكس!!
واشنطن تعرف أنها مازالت قادرة على عرقلة أي إجماع أوروبي بنفوذها وخاصة في دول شرق أوروبا. لكنها تعرف أيضا أن تصريحات «ماكرون» تعكس انقساما في الرأي العام الأوروبي تجاه الحرب في أوكرانيا، وتجاه العلاقات مع واشنطن، وتجاه ضغوط أمريكا لجعل حلف «الناتو» طرفاً في الصراع مع الصين في وقت تدفع فيه أوروبا ثمناً باهظاً لاستمرار الحرب في أوكرانيا والعقوبات التي تم فرضها على روسيا فارتدت على دول أوروبا وحملت اقتصادها بفواتير باهظة للغاية لم يتحمل مثلها اقتصاد أمريكا الذي استفادت بعض القطاعات فيه من الحرب كصناعة البترول والسلاح.
التعامل الهادئ من جانب الإدارة الأمريكية مع تصريحات «ماكرون» لا يريد أيضا أن ينكأ جراحاً لدى فرنسا، وربما لدى غيرها من دول أوروبا هناك ضربة صفقة الغواصات النووية الأمريكية مع أستراليا على حساب صفقة مع فرنسا تم إلغاؤها وكانت قيمتها تتجاوز 60 مليار دولار(!!) وهناك الشكوى العلنية من «ماكرون» بأن المواد البترولية الأمريكية التي جاءت بدلاً من الروسية تباع لأوروبا بأربعة أمثال الأسعار الروسية (!!) وعندما زار ماكرون أمريكا وضع هذه المشاكل أمام القيادة الأمريكية، ومعها الشكوى من عدم عدالة المنافسة التجارية بسبب الدعم والحماية التي تمنح للصناعات الأمريكية، والتي كان من نتيجتها تقلص صادرات أوروبا وخاصة من السيارات، ولم تكن هناك استجابة. في الزيارة الأخيرة للصين كان مع ماكرون خمسون من قيادات الشركات الصناعية، وكانت هناك صفقات أبرزها مصنع جديد للطائرات «الإيرباص» في الصين بدلاً من مصنع أمريكي كان سيقام لإنتاج طائرات «البوينج» هناك!
إذاً يبدو أنا فرنسا وجدت أن مصالحها ستكون في الكفة الصينية بدلاً من الكفة الأمريكية وهذا ما تشهده الان العديد من الدول في العالم وهو عصر التحول الكبير.