الوقت- في يناير 2020، عندما أمر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب باغتيال اللواء قاسم سليماني، القائد السابق لقوة القدس، ساد الفرح في العواصم الغربية وتل أبيب بإزالة أكبر عقبة أمام تنفيذ المخططات الغربية العبرية في المنطقة، ليصبح بعد ذلك بإمكانهم تنفيذ خططهم بسهولة أكبر.
لكن بعد ثلاث سنوات من هذه الجريمة، فإن مراسم إحياء ذكرى قائد المقاومة هذا ورفاقه، تظهر أن مدرسة سليماني لا تزال حيةً وأن طريقه مستمر. ومع مرور الوقت، أصبحت شجاعة الحاج قاسم وأفعاله في محاربة الإرهابيين المدعومين من الغرب أكثر وضوحًا، وكتب العديد من الخبراء مقالات حول دوره القيادي في المنطقة.
للنظر في أثر قائد المقاومة والتضحية بالنفس بين شعوب المنطقة، أجری "الوقت" حواراً مع السيد جعفر قنادباشي، الخبير في شؤون غرب آسيا.
الوقت: ثلاث سنوات مرت على اغتيال اللواء سليماني، ولكن عندما يتم ذكر شجاعته، لا يزال الغربيون ووسائل إعلامهم يفرضون رقابةً صارمةً علی الأخبار المتعلقة به، ويخلقون أجواءً معاديةً ضد بطل مكافحة الإرهاب هذا، من أجل تغيير النظرة الإيجابية للرأي العام تجاهه. في الوقت نفسه، على جبهة المقاومة، ما زالت هذه الجريمة حاضرةً بين أهالي هذه المنطقة ويطالبون بالانتقام من هذا الشهيد العظيم. برأيكم ما هو سر بقاء سليماني؟
السيد جعفر قنادباشي: هناك سمتان تسببتا في بقاء ذکر اللواء سليماني. الأولی شخصيته إذ كان إنسانًا متميزًا من حيث الصفات الإنسانية وبطريقة ما إنسانًا مثاليًا، وكانت طبيعته نقيةً ولا يهتم بالأشياء المادية. كان اللواء سليماني شديد النقاء لدرجة أنه کان لا يری عيوب الناس، وکان يتجاوز الإثنية والعرق واللغات بين الناس، وكان مستوى رؤيته يتجاوز الانتماءات والتصنيفات البشرية. وضمن هذه الميزات، هناك أيضًا عنوان المعارف الإسلامية التي يمكن أن يفسرها.
وحين يقال إن من أصلح علاقته بالله، فإن علاقته بالناس ستصلح أيضًا، هذا هو التفسير الروحي لهذه الصفات، وستكون رؤية هؤلاء الناس أكثر نقاءً. والرؤية العرافانية والروحية في ذلك الشخص، تخلق سمات يحبها الناس. ويعود تواجد آلاف الأشخاص في قبر اللواء سليماني في مدينة كرمان الإيرانية، حتى في برد الشتاء، إلى هذه الخصائص الفريدة التي كان يتمتع بها. حتى في العراق ولبنان وسوريا، التي تحتفل بالذكرى الثالثة لاستشهاد هذا القائد، هناك بالفعل دلائل على شعبيته بين الناس.
سبب بقاء ذکر اللواء سليماني بين الناس، هو أنه كان صوت أهل المنطقة. المسلمون في العراق ولبنان وسوريا وإيران ينتظرون من يستطيع مواجهة الاستعمار الذي ظل يحكم دول المنطقة منذ أكثر من قرنين، دون إطلاق شعارات أو تفاخر، وكان اللواء سليماني مثالاً واضحًا على مثل هذه الشخصية.
الوقت: ما هي خصائص اللواء سليماني من حيث القيادة الاستراتيجية والعملياتية والميدانية، والتي جعلته يمتلك هاتين الخاصيتين في الوقت نفسه؟
السيد جعفر قنادباشي: لم يستخدم اللواء سليماني عمومًا النماذج الغربية والمستوردة، وكان يبحث باستمرار عن تلبية احتياجاتنا العملياتية والعسكرية. تلك النماذج الغربية التي يمكن أن تخلق التبعية، وبعض البروتوكولات المتعلقة بالقيادة العسكرية والتشريعات والقرارات التي تنظم الدفاع عن الجيوش، حتى لا تصبح الدول الأخرى أكثر قوةً وتعتمد دائمًا على الغرب؛ تخلى اللواء سليماني عن كل هذه الأنماط المستوردة، وهذه القضية هي نقطة الانطلاق الأولى لاستقلال أي بلد. وبعبارة أخرى، ابتعدت إيران عن الاستقلال عندما كانت تدريباتها العسكرية تقدم للأجانب في عهد القاجار، ومع الحروب التي وقعت، أصبحنا نعتمد على قوى خارجية.
بدأت نقطة البداية بالنسبة لنا، للتحقق من احتياجاتنا الاستراتيجية من الصفر، وما نحتاجه ووضعه موضع التنفيذ، منذ عهد اللواء سليماني. وكانت نتيجة هذا العمل، بشكل عام، أن القوة العسكرية للقوات المسلحة الإيرانية لم تُبنَ على أساس التبعية وشراء الأسلحة من الخارج. وإذا كان شراء الأسلحة من الخارج قد تم في الماضي، فقد تم إيقاف هذا المسار، وهذا يعني منع دخول وتغلغل الاستعمار في الداخل.
إن أعلى دخل تحصل عليه الدول المستعمرة، هو بيع الأسلحة إلى دول أخرى. واستخدم اللواء سليماني أساليب كانت مفيدةً لإيران في مجال الدفاع، لكنها لم تكن قائمةً على أسلحة أجنبية، وكان هذا التغيير في المسار العام في المنطقة هو الذي قدّم نموذجًا أغضب الغربيين.
لذلك، يقال إن بعض الشركات ومؤسسات بيع السلاح كانت وراء اغتيال اللواء سليماني، لأنها کانت تراه عقبةً كبيرةً أمام أرباحها. وبهذا النموذج الذي قدمه، أبطل سليماني أسطورة دور الأسلحة الغربية في زيادة المقاومة في المنطقة، وفي غضون ذلك، لم يستعن بمستشارين أجانب.
هناك دول في المنطقة تستخدم الأسلحة الغربية وتشتري العشرات من الأسلحة كل عام أكثر من إيران، لكن قدراتها الدفاعية لضمان أمنها القومي ومصالحها في أدنى مستوى. لقد قدّم اللواء سليماني نظريةً كبيرةً جدًا يتم تعريفها من منظور الأمن الجماعي. واليوم، لا يتم تحديد الدفاع عن المصالح الوطنية داخل حدود البلاد فحسب، ولا بد أن يكون الدفاع عابرًا للحدود.
يعني الأمن والدفاع الجماعيان الدفاع عن المصالح الوطنية لكل عضو في هذا الإطار، فضلاً عن زيادة قدرته العسكرية. أي إن إيران تستخدم إنجازات وقدرات الدول الحليفة، وبالتالي هي أيضًا تستخدم قدرات إيران للدفاع عن مصالحها الوطنية. هذا هو أعلى نوع من الدفاع عن المصالح الوطنية، حيث بذل اللواء سليماني الكثير من الجهود في هذا المجال، وتمكنا من تحقيق الاستقلال في المجال العسكري.
هذه القضية أجرت تغييرات في المنطقة أيضًا، والآن في العراق وسوريا، تحاول الحكومات عدم استخدام الأسلحة الغربية والاعتماد على القوة الداخلية. وحتى في السعودية، انخفض شراء الأسلحة المتطورة، وتوصلوا إلى استنتاج مفاده بأن ما يوفر الأمن والمصالح الوطنية ليس شراء أسلحة أجنبية.
الوقت: ما هو الدور الذي لعبه اللواء سليماني في نهوض العالم الإسلامي، وخاصةً في التطورات الداخلية في فلسطين؟ لأنه كان دائماً مناصراً للمقاومة الفلسطينية، وقد اعترف القادة الفلسطينيون مراراً بدعمه لمجموعات المقاومة؟
السيد جعفر قنادباشي: الدور الأول الذي لعبه اللواء سليماني في المنطقة، والذي هزّ المنطقة بأكملها وكان نقطة الانطلاق لتعزيز محور المقاومة، كان تنفيذ نموذج ناجح ضد الكيان الصهيوني في حرب الـ 33 يومًا.
في هذه الحرب، طبّق اللواء سليماني نموذجًا جديدًا للمقاومة، بمساعدة عماد مغنية، أحد القادة السابقين لحزب الله، والسيد حسن نصر الله الأمين العام للحزب. في حرب الـ 33 يومًا، أبطل اللواء سليماني أسطورة عدم هزيمة الکيان الصهيوني التي كانت موجودةً بين دول المنطقة لعدة عقود.
أن تتمکن مجموعة صغيرة من قوات حزب الله في جنوب لبنان من هزيمة الکيان الصهيوني دون الاعتماد على دول أجنبية، أحدث زلزالاً في حدود إسرائيل. وبعد هزيمة الكيان الصهيوني في هذه الحرب، تمت محاكمة إيهود أولمرت، رئيس وزراء هذا الکيان، ووزير حربه.
وبعد هزيمة المحتلين، ساد هناك اعتقاد بين الفلسطينيين أنه يمكن هزيمة الکيان الصهيوني، وإذا رأينا في غزة أن هذه المنطقة الصغيرة جدًا كانت قادرةً على كسب حروب متكررة ضد تل أبيب، فقد استند ذلك إلى نموذج حرب الـ 33 يومًا، وكان هذا هو أهم شيء فعله اللواء سليماني.
بالطبع، لعب اللواء سليماني أيضًا دورًا مهمًا في الترتيبات العسكرية واستخدام القوات الشعبية، ومن شارك في الحرب في لبنان كان مجموعة مليشيات. في الماضي، كان هناك اعتقاد أنه يجب أن يكون الأشخاص الذين يشارکون في الحرب مع الكيان الصهيوني من الجنود والعسکريين والذين تلقوا التدريب اللازم، ولم يتم استخدام القوات الشعبية. وفي فلسطين، في البداية كان المقاتلون من القوى المحترفة التي قاتلت المحتلين، ولم يكن للناس العاديين دور في ذلك.
لکن في لبنان، ما حدث هو أن الميليشيات الشعبية كانت في الخطوط الأمامية، وبالتالي وُلدت هذه الفكرة القائلة بإمكانية كسب الحرب بقوة الشعب، وكانت هذه هي الطريقة التي استخدمها اللواء سليماني. ونفس الأسلوب يتم تطبيقه في فلسطين، والآن كل الناس، حتى الأطفال، يشاركون في العمليات ضد الكيان الصهيوني.
طبعاً، اتخذت اجراءات جيدة في تسليم السلاح للفصائل الفلسطينية في عهد اللواء سليماني، وهو الأمر الذي کان يتطلب السرية، وقد نفّذ هذا البرنامج بشكل جيد في لبنان فيما يتعلق بكيفية نقل الأسلحة دون أن يلاحظ العدو، وكيفية الاختباء من صور الأقمار الصناعية.
من الصعب في حروب اليوم إخفاء نقل الأسلحة، بسبب التقدم التكنولوجي الذي حدث في مجال الأقمار الصناعية واستخدام الرادارات المتقدمة. وإذا لم يتعاون الشعب ستظهر مشاكل كثيرة، وبمساعدة الناس يمكن تنفيذ هذه البرامج، وقد نجح اللواء سليماني في هذا المجال.
الوقت: حاول ترامب والأميركيون إضعاف محور المقاومة في المنطقة باغتيال سليماني، هل استطاعوا تحقيق هذا الهدف أم لا؟ من ناحية أخری، هل أثّر فراغ قيادة الحاج قاسم على قوى المقاومة؟
السيد جعفر قنادباشي: كانت نظرة الأمريكيين لمحور المقاومة هي نفس وجهة نظر الجماعات الإجرامية، والتي تعتمد على شخص واحد، وإذا تمت إزالة الشخص على رأس المجموعة، فستتفكك المجموعة التابعة لها أيضًا. كانت لدی الأمريكيين فكرة عن اللواء سليماني كجيش يعتمد على شخص وجنرال مدرب، وفي غيابه يمكن أن تنشأ العديد من المشاكل في جسد القوات الأخرى.
وانطلاقاً من هذا التصور، كان الأمريكيون ينظرون إلی قوات المقاومة مثل المليشيات المسلحة التي كانت تنشط في أركان العالم خلال الحرب الباردة وتعتمد على قوة القائد، واعتقدوا أنهم إذا اغتالوا اللواء سليماني، فإن محور المقاومة سيختفي من تلقاء نفسه. لم يكن الأمريكيون على دراية بحقيقة أن اللواء سليماني، بالإضافة إلى قيادته لقوات المقاومة، كان يربي كثيرين مثله في نفس الوقت، وبصرف النظر عن البعد العسكري، فقد كان نشطًا أيضًا في البعد الإنساني، وخلق دوافع في هذه القوى يمكن أن تؤدي إلى العديد من التدريبات الأخرى.
لم يقم سليماني بتدريب قواته فحسب، بل خلق أيضًا دوافع جديدة في قوات لبنان وسوريا والعراق، وقضی علی المفاهيم الخاطئة القائلة بأنه لا يمكننا القيام بعمل عسكري دون مساعدة الغرب. وكسر هذه المفاهيم الخاطئة، خلق أرضيةً لتدريب وتسامي المقاومة.
لقد خلق سليماني الاعتقاد بأنه من الممكن الوقوف ضد القوى العظمى وإلحاق الهزيمة بها، وما حدث في سوريا كان حربًا عالميةً انتصرت فيها قوى المقاومة بقيادة سليماني، وكان أحد نجاحات اللواء سليماني هو خلق الإيمان ببناء قادة آخرين مثل سليماني. ولذلك، لم يحدث باغتياله فراغ في صفوف المقاومة، والعلامة الكبيرة التي تدل علی أن محور المقاومة لم يحدث فيها أي فرق عن الماضي، هي القلق البالغ للکيان الصهيوني الذي يطلق التهديدات كل يوم، وسبب هذه الإجراءات هو أن محور المقاومة لم يختف.
إذا کانت المقاومة قد ضعفت لما كان هناك داع لهذا القلق، وكان بإمكانهم اتخاذ إجراءات ضد هذه القوى، لكنهم غير قادرين على ذلك. وهذا يظهر أنه على الرغم من عدم وجود الشهيد سليماني نفسه، إلا أنه كان قادرًا على ترويج أفكاره بين قوى المقاومة ليواصلوا النضال في غيابه.