الوقت - الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي كان أكبر مسبب للحرب بالأزمة السورية في العقد الماضي، لم يتراجع عن سياساته السابقة على الرغم من ادعائه الواضح بالتخلي عن الأعمال العدائية، ومع العملية العسكرية البرية التي سيقوم بها في شمال سوريا، يثبت أنه ما زال مصراً علی انتهاج السياسات الخاطئة.
وفي هذا الإطار، رغم الجهود الدولية لمنع العمليات العسكرية التركية ضد الجماعات الكردية في شمال سوريا، لكن سلطات أنقرة قررت تنفيذ هذه العملية، وستبدأ قريبًا عمليات برية.
تدعي تركيا أن الجماعات الإرهابية التابعة لحزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب(YPD) تهدد أمن حدودها، وستواصل عملياتها حتى التدمير الكامل لهذه المجموعات.
إضافة إلى حقيقة أن روسيا والولايات المتحدة تعارضان بشدة بدء جولة جديدة من العمليات التركية، لكن في غضون ذلك، فإن الطرف الأكبر من الصراع هو الحكومة السورية، التي لا ترغب تركيا في التفاوض معها بشأن العمليات العسكرية.
سلطات دمشق قد أعلنت مرارًا أن أي عمل عسكري دون إذن من سوريا يعدّ انتهاكًا لسيادة البلاد الإقليمية، وقد نددوا بذلك. لكن الحكومة السورية تجنبت اتخاذ موقف متشدد خلال الأيام القليلة الماضية، الأمر الذي أدى، إلى جانب مواقف القادة الأتراك بشأن تحسين العلاقات مع دمشق، إلى الغموض في فهم نهج الحكومة المركزية فيما يتعلق بالجولة الجديدة من العمليات التركية.
سياسة أردوغان المزدوجة
يأتي بدء العمليات العسكرية التركية في الوقت الذي أعلن فيه أردوغان ومسؤولون آخرون في أنقرة مؤخرًا عن استعدادهم لتطبيع العلاقات مع دمشق، وعقدت اجتماعات بين مسؤولي المخابرات في البلدين للتحضير للاجتماعات السياسية.
لکن على الرغم من هذه الجهود، أثبت أردوغان أنه لا يتبع أي مبادئ وقواعد في سياسته الخارجية، ويتخذ قرارات بناءً على مصالحه الشخصية فقط.
في الأيام الأخيرة، قال أردوغان إنه لا يعتبر اللقاء مع الرئيس السوري بشار الأسد أمرًا مستبعدًا، وإن الاجتماع سيعقد على الأرجح في روسيا قبل الانتخابات الرئاسية التركية.
لكن في الوقت نفسه الذي تصدر فيه هذه التصريحات، فإنه يتطلع إلى بدء عمليات برية في شمال سوريا، وقال أيضًا إنه لا يقبل أي جدول زمني محدد لإنهاء احتلال الأراضي السورية، ولا يرغب حتى في التشاور مع الحكومة السورية بشأن العمليات المزعومة في الأيام المقبلة.
يمكن أن تؤدي عمليات تركيا في شمال سوريا إلى تعطيل عملية التطبيع المحتملة بين البلدين، وإطالة أمد هذا المشروع الدبلوماسي. وبالنظر إلی السياسات الحربية لترکيا لعقد من الزمن، لا تثق السلطات السورية في تغيير مواقف قادة هذا البلد، ولهذا السبب لم تتخذ خطوةً أساسيةً في هذا الاتجاه، وقد طرحت شروطاً للتأكد من مدى جدية أنقرة في قرارها.
الرئيس السوري بشار الأسد أكد مؤخرًا في خطابه حول استئناف العلاقات مع تركيا، أن اللقاءات مع أنقرة هي الآن ذات طبيعة استخباراتية فقط، لكنها ستؤدي إلى زيادة مستوى اللقاءات. وحسب بشار الأسد، فقد أعربت تركيا عن استعدادها لتلبية مطالب دمشق، وتتوقع سوريا خطوات عملية من تركيا وليس مجرد كلمات.
يعدّ انسحاب القوات التركية ووقف دعم الجماعات الإرهابية ومساعدة الحكومة السورية على استعادة السيطرة على إدلب، من بين المطالب الرئيسية لدمشق لإقامة علاقات مع أنقرة، وهو ما وافقت عليه حكومة أردوغان ضمنيًا، لكن العملية البرية ليست ما تتوقعه سوريا.
قبل العملية البرية، نفذت تركيا منذ الأسبوع الماضي هجمات جوية ومدفعية ضد الجماعات الكردية في شمال سوريا، وحسب وزارة الدفاع في هذا البلد، فقد قتل العشرات من المسلحين الأكراد في هذه المنطقة.
کما تتعرض محافظتا الرقة والحسكة لقصف مدفعي تركي هذه الأيام، وقد سقط عشرات القتلى في العمليات التي جرت في الأيام الأخيرة. وشهدت هذه الهجمات قصف مناطق مختلفة من مواقع القوات الكردية في سوريا.
کذلك، انتشرت يوم الأحد الماضي عدد من الدبابات التركية وعتاد عسكري جديد على الحدود مع سوريا، ما يشير إلى احتمال وصول قوات عسكرية إلى شمال سوريا. وبالتالي، ستكون سوريا مسرحاً لأحداث جديدة في الأيام المقبلة.
صمت يتزامن مع التشكيل العسكري
رغم أن الحكومة السورية تعارض بشدة عمليات تركيا في شمال هذا البلد، إلا أنها لم تتخذ موقفًا محددًا في هذا الصدد، وتراقب الأحداث عن کثب في محاولة لعدم اتساع نطاق الحرب أكثر.
ويعتقد البعض أن صمت دمشق حيال العمليات التركية المحتملة، يرجع إلى الاتفاقات والتنسيق بين الجانبين من وراء الكواليس للتعامل مع الجماعات الإرهابية الكردية، لكن تحركات الجيش السوري تثبت عكس هذا الادعاء.
دمشق التي تمكنت بصعوبة من تحقيق الأمن النسبي في البلاد، ليس لديها رغبة في تجربة أزمة جديدة، ولهذا السبب، ومن أجل إظهار أنها في موقع متفوق مقارنةً بالماضي وتواجه أي عدوان من قبل المعتدين، أرسلت في الأيام الأخيرة بعض قواتها إلى حدود مناطق الصراع الكردي.
هذا الإجراء الذي يقوم به الجيش السوري هو نوع من التحذير لتركيا من أنه إذا بدأت العملية، فقد يدعم الجماعات الكردية، وقد تزيد هذه القضية من تكلفة أنقرة. كما قال القادة الأكراد إنهم سيفتحون أبواب هذه المنطقة أمام الحكومة المركزية، ويرحبون بوجودها من أجل التعاون العسكري.
أرسلت الحكومة السورية الآلاف من قواتها إلى المناطق الشمالية في حزيران(يونيو)، عندما تصاعدت الهجمات التركية على شمال سوريا، بل عقدت اتفاقات مع القادة الأكراد للتعاون مع بعضهم البعض إذا لزم الأمر للتعامل مع التهديد المشترك، وهذا البرنامج عاد إلى جدول الأعمال.
سيكون تعاون الحكومة المركزية والأكراد كارثيًا على تركيا، وسيزيد من صعوبة النجاح في العمليات العسكرية. ويدرك أردوغان جيدًا أن وجود حكومة مستقرة في سوريا سيزيد من أمن حدود تركيا، وليس هناك حاجة لشن غارات بين الحين والآخر، ولذلك فهو يحاول ألا يبعد دمشق عن نفسه.
وعلى الرغم من أن سوريا تعلم جيدًا أن قادة أنقرة ليس لديهم إرادة جادة لتطبيع العلاقات في الوقت الحالي، إلا أنها لا تريد اتخاذ موقف يقضي علی الجهود الفاترة لاستئناف العلاقات.
في الأشهر الأخيرة، ومن أجل إظهار حسن نيتها، أغلقت تركيا مكاتب المعارضة السورية في هذا البلد وخفضت دعمها لإرهابيي إدلب. وقد أدی ذلك إلی هجوم التكفيريين علی مناطق سيطرة القوات الخاضعة لقيادة تركيا لإبداء غضبهم من تغيير سياسات هذا البلد.
يعتبر بعد تركيا عن إرهابيي إدلب انتصاراً لدمشق، لأنه مع تقليص الدعم الأجنبي سيكون الإرهابيون في موقع ضعف، ويمكن لقوات المقاومة تدميرهم بالعمليات الصاعقة والقضاء عليهم إلى الأبد.
تجنب المواجهة مع وساطة روسيا
تحاول الحكومة السورية الحد من التوترات بطرق مختلفة، لإدارة التطورات المستقبلية لهذا البلد. ولهذا الغرض، سافر وفد روسي إلى المناطق الكردية في سوريا واجتمع مع قادة قوات سوريا الديمقراطية(قسد).
يقال إن ألكسندر تشايكو، قائد القوات الروسية في سوريا، اقترح في هذا الاجتماع أنه مقابل عدم تنفيذ عمليات عسكرية تركية ضد مواقع الأکراد، فإنهم سينسحبون بالكامل من الشريط الحدودي، حتی تحلّ قوات الجيش السوري محل مقاتلي هذه المجموعة، لكن قوات سوريا الديمقراطية لم تقبل هذا العرض.
وحسب مصادر محلية، فقد جرى في هذا الاجتماع نقاش حول تهديدات تركيا بشن هجوم بري، وسبل اتخاذ إجراءات لمنع هذه العملية.
ولأن تركيا تدعي أنها تريد التعامل مع الجماعات الإرهابية الكردية في شمال سوريا لإبعادها عن حدود البلاد، تخطط دمشق لسلب أنقرة ذريعتها في التعامل مع الجماعات الإرهابية، وذلك من خلال نشر القوات السورية في مناطق الصراع.
يهدف وجود القوات السورية إلى منع العمليات البرية التركية، لأن تركيا قد توقف عملياتها أو تكتفي بهجمات جوية ومدفعية لتجنب الاشتباك مع قوات المقاومة. لأن الانخراط في المواجهة مع الجيش السوري قد يقطع كل خيوط أردوغان للتطبيع، والرئيس التركي عند مفترق طرق صعب.
وفي هذا الإطار، يعتقد عبد الباري عطوان، محلل شؤون العالم العربي، أن السلطات السورية قد تستغل ضعف أردوغان وحاجته لدمشق، بالنظر إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في تركيا، لتأخذ منه امتيازات كبيرة وتفرض عليه شروطها الأساسية، وأبرزها انسحاب جميع القوات التركية من سوريا وإنهاء أنقرة دعمها للجماعات الإرهابية.
كما توقع هذا المحلل الجانب الآخر من القضية، حيث إنه من الممكن أن تنتظر دمشق حتى تحديد الجانب المنتصر في الانتخابات التركية؛ وخاصةً أن المعارضة التركية تريد انسحاب القوات التركية من سوريا وعودة جميع اللاجئين السوريين.
وهکذا، فإن العمليات البرية التركية، التي ليس لها نهاية في الأفق، يمكن أن توجه ضربةً قاسيةً لأردوغان في الانتخابات إذا طال أمدها. وهذه القضية، في الوقت الذي تعاني فيه تركيا من أزمة اقتصادية، ستضع المعارضة في موقع أعلى لإبعاد أردوغان عن الساحة السياسية بعد عقدين من الزمن.