الوقت- كان الهجوم الإرهابى على باريس شنيعا.. وقلنا: خلاص، هذه المرة سوف ينتبهون ويدركون خطأهم وسيهبون بجدية للقضاء على الإرهاب. قلنا هذه العبارة
خمسون مرة، منذ 11 سبتمبر 2001 وإلى الآن، وفي كل مرة يتكرر الأمر من جديد، وأظن أنه سيحدث مرات عديدة أخرى، وذلك لأن أسباب حدوث الإرهاب أعمق بكثير من مجرد قرار يطلقه بعض قادة الدول قائلين: الآن سنكف عن دعم الإرهاب فيتوقف الإرهاب. حالة فرنسا تبين الأسباب العميقة للإرهاب والتى تتكرر بصورة أو بأخرى في باقي البلاد الغربية .
المسلمون يعيشون في فرنسا منذ زمن بعيد. هناك من يمارسون شعائر دينهم، وهم أقلية، وهناك من يتبنى نمط الحياة الغربية وهم أغلبية، على أي حال لم تكن هناك مشكلات حادة مع المسلمين .
منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي، بدأت الدول الغربية تتخلى عن هدف تحقيق العدالة الاجتماعية، وتتبنى الليبرالية الجديدة، وهي التي تجعل الربح هدفا أساسيا لها، وتعطي لأرباب العمل سلطة طرد العمالة الزائدة. وبدأت المدن تزيح من مركزها إلى هوامشها الفقراء والعاطلين وقليلي التعليم.
وأصبحت الضواحي مكانا ملعونا لا خلاص فيه لبالغ ولا أمل فيه لطفل. يشعر الشباب في مقتبل حياته العملية بأن الأبواب مقفلة، فيزداد ميله إلى الجنوح، وتنتشر سرقة الدراجات وتجارة المخدرات. وبدلاً من أن تنتبه الدولة إلى تقصيرها وتضع خططاً لإدماج هؤلاء الشباب في الحياة الاجتماعية وإتاحة فرص العمل الكريم لهم، لجأت إلى استجلاب عدد كبير من الدعاة الدينيين، ليكف الشباب عن السرقة ويواظب على الصلاة. ولكن لوحظ أن الشبان من الذكور أصبحوا أيضاً يهجرون المنتديات الرياضية والمراقص، ويسيرون معا في تشكيلات عصابية ويعتدون على البنات اللاتي لا يستجبن لأوامرهم في ضرورة وضع الحجاب. كان ذلك في التسعينيات تحت حكم الاشتراكيين، ثم جاء ساركوزي وزيرا للداخلية فأنشأ اتحاد الجمعيات الإسلامية بفرنسا، وهو كوكتيل غريب يجمع بين تيارات الإخوان والوهابية والتبليغ والسلفية الجهادية. وكل هؤلاء لا يتجاوزون 5% من إجمالي المسلمين في فرنسا، أما الباقون فقد تبنوا نمط الحياة العلمانية بكل جوانبها. والمشكلة أن هذا الاتحاد هو الذي أصبح يحتكر الحديث باسم المسلمين في فرنسا وتسعى إليه كل وسائل الإعلام .
كان هدف الدولة من هذا التضخيم الإعلامي لهؤلاء المسلمين المتشددين وعدم إتاحة الحديث للغالبية العظمى من المسلمين العلمانيين هو تبرير تقصير الدولة في الاهتمام بشباب الضواحي. فكل هؤلاء الفتيان المسلمين مواطنون فرنسيون، وإذا كانت البطالة والجريمة والتطرف تنتشر في أوساطهم فذلك دليل على فشل الدولة. ولكن الدولة التي لم تعد تهتم بضرورة تحقيق المساواة بين المواطنين أرادت أن توصم الضواحي بوصمة التطرف لتتركها لحالها .
أخيرا وبعد اندلاع الأزمة السورية، جعل الرئيس هولاند من بشار الأسد عدوا شخصيا له، كما جعل بوش الابن، من قبل، من صدام عدواً. رأى الرئيس الفرنسي أن نظام بشار الأسد ينبغي أن يسقط مهما يكن الثمن. وفي الوقت الذي كان فيه محمد مرسي يدعو الشباب المصري للتطوع للقتال في سوريا في استاد القاهرة وعلى شاشات التلفزيون، كان أئمة المساجد في فرنسا يدعون الشباب المسلم للسفر للجهاد في سوريا. وبدأ تنظيم الرحلات إلى سوريا عبر تركيا، ونظرت الحكومة الفرنسية إلى هذا الأمر بعين الرضا. وها هم العائدون من سوريا، مع أولئك الذين لم يتمكنوا من السفر للجهاد، قد أصبحوا رديفا لداعش أو القاعدة في قلب فرنسا .
العمليات الإرهابية إذن ليست ناتجة عن خطأ وقعت فيه الحكومة ويمكنها ببساطة الرجوع عنه. سوف يطول السجال بين الإرهاب والحكومات الغربية، وذلك لسببين: الأول أن الإدارة الاقتصادية للمجتمع لا يبدو أنها تعمل على معالجة البيئة الحاضنة للتطرف والإرهاب والتي تتسم بالتهميش والاستبعاد وانهيار التعليم أو تقلل منها، بل على العكس وبمرور الوقت يزداد حجم التهميش والاستبعاد وتظل البيئة صالحة لدفع الشباب إما إلى الجريمة وإما إلى التطرف الديني.
السبب الثاني أن هناك أطروحة يتداولها جهابذة السياسة الغربية ترى أن الإرهاب في أوروبا سوف يختفي حينما يصل إلى الحكم في البلاد العربية اتجاه اسلامي معتدل ويقصدون به الإخوان المسلمين. وحينما يحدث عمل إرهابي شنيع فإنهم لا يتخلون عن هذه الفكرة بل يزدادون تمسكا بها. هم يعلمون بأن أنصار الإسلام المعتدل يعادون المرأة والحريات السياسية والحريات الشخصية، لكنهم، وبمنتهى القسوة وغلاظة القلب، يعتقدون أن هذا من شأنه أن يجعل العنف ممارسة إسلامية- إسلامية، وينجو هم منه. وفي سعيهم لتهيئة الأوضاع لوصول هؤلاء المعتدلين يعودون من جديد لتمويل جماعات أخرى لا تلبث بدورها أن تصير جماعات إرهابية تبدأ بممارسة العنف في الداخل ثم تتجه بعد ذلك إلى تصدير الإرهاب .
ها نحن نجد أنفسنا في النهاية أمام سببين رئيسيين أحدهما يتعلق بالسياسة الداخلية في البلاد الغربية والتي تقوم على التخلي عن فكرة المساواة وعن تحقيق العدالة الاجتماعية، وسبب آخر يتعلق بالسياسة الخارجية، يقوم على فكرة أنه لا يهم ما يحدث من خراب ودمار لبشر آمنين، المهم أن يكون بعيدا عن الغرب. ليس الهدف هنا هو زرع التشاؤم أو تثبيط الهمم، بل على العكس دعوة لأن نبدأ فورا وبجدية .