الوقت - بعد عدة سنوات من العداء والخصومة من جانب بعض الأنظمة العربية للحكومة السورية، شهدنا في السنوات الثلاث الماضية بداية عملية خفض التصعيد وتطبيع العلاقات بينها وبين دمشق.
وفي هذا السياق، افتتحت الإمارات والبحرين سفارتيهما في دمشق في أواخر عام 2018. كما أعادت عمان سفيرها إلى دمشق في أكتوبر 2020. وفي الأشهر الأخيرة، استؤنفت الرحلات الجوية المباشرة من مطار دمشق إلى دبي والشارقة.
وهناك أيضًا أدلة على أن السعودية تضع بجدية عملية خفض التصعيد مع سوريا على جدول الأعمال، وتسعى إلى إنشاء قناة اتصال مباشر مع الحكومة السورية.
حتى في الأشهر الأخيرة، قام مسؤولون سياسيون وأمنيون من البلدين بزيارات متبادلة؛ على سبيل المثال، قام وزير السياحة السوري بزيارة رسمية إلى الرياض في يونيو من هذا العام، وذكرت بعض وسائل الإعلام أن وزير الخارجية السوري فيصل المقداد قام بزيارة سرية إلى الرياض في مايو.
على الجانب الآخر، يقال إن خالد الحميدان، رئيس جهاز المخابرات السعودية، التقى بالرئيس بشار الأسد وعلي مملوك رئيس جهاز الأمن القومي السوري، أثناء زيارة له إلى دمشق.
وفي هذا الصدد، وفي حدث مهم، طلبت بعض الدول العربية المشاركة في إعادة إعمار سوريا، وبُذلت جهود للتعاون مع حكومة بشار الأسد الشرعية في مختلف المجالات الاقتصادية والتجارية والاتصالية.
ومؤخرًا التقى وزير الموارد المائية السوري "تمام رعد" بوزير الطاقة الإماراتي "سهيل المزروعي" في "دبي مول". وأكد الجانب الإماراتي خلال الاجتماع استعداد أبوظبي لزيادة التعاون مع الحكومة السورية في مجال المياه والطاقة، دعم نقل الخبرات في مجال خصخصة القطاعات المهمة، تبادل الخبرات ودعم المشاريع الاستثمارية في سوريا، فضلاً عن دعم سوريا لتصبح مركزاً سياحياً في العالم.
إضافة إلى ذلك، عقد اجتماع لوزراء الطاقة لكل من الأردن ومصر وسوريا ولبنان في 7 أيلول 2021 في مدينة عمان، لمراجعة الإجراءات اللازمة لتفعيل اتفاقيات نقل الطاقة بينهم. وتم الاتفاق في هذا الاجتماع الرباعي على اتخاذ الخطوات اللازمة لتفعيل الاتفاقيات بين هذه الدول، بشأن نقل الغاز والكهرباء من مصر والأردن إلى لبنان عبر الأراضي السورية.
أهمية هذه القضية، إضافة إلى إشارات انتهاء الصراع مع دمشق، وتسريع حل أكبر أزمة في القرن الحادي والعشرين، واتضاح مستقبل إعادة المقعد السوري في الجامعة العربية إلى حكومة بشار الأسد الشرعية، ونظراً للعقوبات الغربية على التعاون الاقتصادي مع الحكومة السورية، وخاصةً "عقوبات قيصر"، هي إعلان الاستعداد للمشاركة في إعادة إعمار سوريا وتجاهل العقوبات بأهداف ودوافع مهمة.
ولذلك، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو، ما هي أهداف الدول العربية في دوافعها للمشاركة في إعادة إعمار سوريا؟
إعادة بناء الجسور المدمرة لجامعة الدول العربية
لا شك أن جزءًا من الاتجاه المتنامي للدول العربية لتهدئة التوترات مع دمشق، سيكون بسبب اتضاح مسار التطورات على طريق حل الأزمة، واستعادة السيطرة الكاملة للحكومة على الأوضاع في البلاد في المستقبل القريب، وهذا يعني القبول بفشل مشروع إضعاف قوة محور المقاومة، من خلال الإطاحة بحكومة بشار الأسد عبر إنشاء جيش إرهابي دولي وإرساله إلى سوريا.
واجهت العلاقات العربية مع الحكومة الشرعية في سوريا في السنوات التي تلت عام 2011، أي بعد بداية الأزمة في هذا البلد، توترات واسعة وغير مسبوقة بشكل لا يصدق، مع دور الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون وخاصةً قطر والسعودية. حتى أن الجامعة العربية اغتصبت المقعد السوري في هذه المؤسسة من حكومة بشار الأسد وأعطته للمعارضة.
لکن الآن، ومع اقتراب الأزمة في سوريا من نهايتها، تراقب الدول العربية تعزيز أسس الوحدة بين الدول الأعضاء في محور المقاومة، في جميع الأشكال السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية.
وهذا ما أثار انتقادات واسعة بين السياسيين العرب لأفعال حكوماتهم تجاه الحكومة السورية، لأنهم يعتقدون أنها دفعت دمشق إلى أن تصبح أقرب وأكثر اتحادًا مع محور المقاومة وطهران.
وبالتالي، فإن التهدئة السياسية مع سوريا، والوعود بالمشاركة في إعادة بناء اقتصاد هذا البلد، وربما حتى عودة مقعد جامعة الدول العربية إلى حكومة بشار الأسد في المستقبل القريب، كلها تهدف إلى تحقيق التوازن أمام نفوذ إيران في العالم العربي والتحالف الاستراتيجي بين طهران ودمشق.
وبمعنى آخر، تسعى الدول العربية إلى إحياء علاقاتها التقليدية مع الدولة العربية السورية، من خلال الوعد بالمشاركة في إعادة إعمار سوريا، حتی تنظر بعد ذلك في مسار تحقيق أهدافها الأخرى.
محاولات العرب للتكيف مع نظام ما بعد أمريكا في منطقة غرب آسيا
لا شك أن دخول الدول العربية إلى مسار التهدئة مع سوريا، ومحاولة المشاركة في إعادة إعمار هذا البلد، مرتبطان بالتطورات الإقليمية وكذلك بالنظام المستقبلي في المنطقة.
على عكس التصورات الأولية لبعض الدول العربية، وخاصةً الإمارات والسعودية، لم يسقط بشار الأسد من السلطة فحسب، بل ترسخت شرعية حكمه على أعلى مستوى ممكن في هذا البلد، بعد محاربة الإرهاب قرابة عقد من الزمن.
وإضافة إلى سوريا، حيث فشل الإرهابيون والداعمون الإقليميون وعبر الإقليميين، شهدنا أيضًا انتصار محور المقاومة وهزيمة مؤيدي الإرهاب في مراكز الأزمات الأخرى في المنطقة، مثل العراق واليمن.
وفي خضم هذه التطورات، تشير كل الدلائل إلى أن انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة يبدو حتمياً، وأن انسحاب واشنطن الفاضح من أفغانستان سيسرع من هذه القضية أكثر فأکثر.
في الواقع، إن منطقة غرب آسيا في طريقها إلى نظام ما بعد أمريكا، وفي مثل هذه الظروف، تحاول الدول العربية، التي تتفهم معادلات القوة والأمن الجديدة في المنطقة، التركيز على خفض التصعيد مع محور المقاومة.
کذلك، فإن ضرورات النظام الإقليمي الجديد في غرب آسيا، والتي تتمحور حول انسحاب واشنطن من المنطقة، أقنعت الدول العربية باتباع استراتيجية خفض التصعيد مع محور المقاومة، من خلال تبني نهج لا يعتمد تمامًا على الولايات المتحدة في مجال السياسة الخارجية.
معارضة محور الإخوان والتقارب مع دمشق
من بواعث القلق الأخرى للدول العربية في السنوات الأخيرة، نفوذ جبهة الإخوان في المنطقة تحت القيادة السياسية لتركيا والدعم المالي من قطر.
في السنوات التي تلت عام 2011، تبنت السعودية والإمارات، اللتان شعرتا بالتهديد من توسع جبهة الإخوان في منطقة غرب آسيا، استراتيجيةً شاملةً لمواجهة نفوذ الإخوان المسلمين.
وفي هذا الصدد، شهدنا تصاعد التوترات بين تركيا والدول العربية، ودعم السعودية والإمارات لانقلاب عبد الفتاح السيسي عام 2013، وقطع العلاقات العربية مع قطر في يونيو 2017، وتدخل الرياض وأبو ظبي في سوق الصرف المالي والعملات الأجنبية التركي.
وفي مثل هذه الظروف، يسعى العرب إلى زيادة تقوية المحور المناهض للإخوان، من خلال تطبيع العلاقات مع دمشق، بالنظر إلی أن حكومة بشار الأسد تری أنقرة جهةً تدخليةً ومحتلةً.