الوقت- في ظل الظروف الحالية، تعتقد الحكومة التركية أنها حققت جزءاً كبيراً من أهدافها في المناطق الشرقية لنهر الفرات وأنها تمكّنت أيضاً من فرض سيطرتها على تلك المناطق عقب قيامها بعمليات عسكرية غير قانونية أطلقت عليها عملية "نبع السلام".
وحول هذا السياق، وصفت وسائل الإعلام التابعة لحزب "العدالة والتنمية" التركي هذه العملية الأخيرة بأنها عملية أحدثت علامة فارقة ونصراً تاريخياً لتركيا، معتقدين بذلك أن أنقرة عقب قيامها بهذه العملية، أصبح باستطاعتها ممارسة استقلالها السياسي وقوتها العسكرية على الآخرين، لكن أحزاب المعارضة ووسائل الإعلام التابعة لها كان لديها وجهة نظر مختلفة.
وفي هذا السياق، كشفت العديد من المصادر الإخبارية، بأن قادة ائتلاف المعارضة التركية، "كمال كلجدار أوغلو" و"ميرال أكسينر"، انتقدا مراراً وتكراراً الرئيس التركي " أردوغان" بسبب تنفيذه لعملية "نبع السلام"، قائلين: "إن تركيا كانت تعيش حالة من الوحدة والانعزال بسبب ضعف دبلوماسيتها وسياستها الخارجية".
ولفتا إلى أن الجيش التركي قام بعمله بشكل جيد، ولكن في نهاية المطاف، قطفت روسيا ثمار عملية "نبع السلام" وأصبح للرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" موضع قدم في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة في سوريا.
على أي حال، إذا أردنا تقييم إنجازات ومكاسب هذه العمليات العسكرية التركية، يجب أن نشير إلى حقيقة أن إدارة التطورات السياسية والأمنية والاجتماعية في شمال سوريا، وخاصة في مناطق شرق الفرات، لها العديد من الأبعاد المعقدة والخاصة، بحيث إن بعض هذه الأبعاد قد تؤدي إلى خلق الكثير من التحديات للاستراتيجيات والأهداف التركية في تلك المناطق.
قضية عناصر داعش الإرهابية لا تزال معلّقة
إن أحد أهم التحديات السياسية والأمنية التي تواجه تركيا في شمال سوريا هو التعامل مع وضع سجناء عناصر "داعش" وعائلاتهم. وهنا تجدر الإشارة إلى أن جنسيات هؤلاء الإرهابيين المختلفة، بالإضافة إلى سجلّهم الأسود في ارتكاب العديد من الجرائم الوحشية، حوّلت كل واحد منهم إلى قنبلة موقوتة يمكن أن تعرّض أمن سوريا وتركيا ودول أخرى في المنطقة والعالم للخطر.
وحول هذا السياق، قال مسؤولون أمنيون وسياسيون أتراك إنهم تسلّموا عدداً من عناصر "داعش" وقاموا بنقلهم إلى داخل البلاد، لكن ما زال من غير الواضح كيف ستبدو عمليات الاستجواب والاحتجاز لتلك العناصر الإرهابية وما إذا كانت تركيا ستكون قادرة قانونياً على سجنهم للأبد في أراضيها، أو أنه سيتعيّن عليها إعادة بعض تلك العناصر الإرهابية إلى بلدانهم الأصلية.
قضية اللاجئين
إن أحد الانتقادات الرئيسة لمعارضي الرئيس التركي "أردوغان"، تتمثل في أن سياسات "أردوغان" في الملف السوري تسبّبت في إقامة حوالي 4 ملايين مواطن سوري، أي ما يزيد قليلاً على سُدس إجمالي سكان هذا البلد، في مختلف المحافظات التركية، وهناك أرقام مختلفة تشير إلى مقدار ما تنفقه الحكومة التركية على اللاجئين السوريين، وحول هذا السياق، كشفت العديد من التقارير الاقتصادية التركية أن الحكومة التركية صرفت ما يقارب 40 مليار دولار على أولئك اللاجئين، وهنا يمكن القول بأن خسارة مثل هذه الثروة الكبيرة خارج نطاق الاقتصاد التركي الهشّ والضعيف، يمكن أن يتسبّب بانهيار الاقتصاد التركي كلياً ولهذا فإنه يتعيّن على تركيا أن تجد وسيلة لإعادة النازحين إلى قراهم ومدنهم السورية، لكن النقطة المهمة هي أن هذا الحل يجب أن يقوم على النزوح الطوعي للاجئين من تركيا وإلا فإنه سوف يتسبّب بحدوث نوع من أنواع انتهاكات حقوق الإنسان للجانب التركي.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن قضية إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم تواجه العديد من التحديات المهمة، ومنها ما يلي:
1. يجب أن تكون عملية إعادة اللاجئين السوريين إلى ما تسميه تركيا منطقة آمنة بطريقة لا تخلق توترات اجتماعية وتغيرات ديمغرافية.
2. إذا كان من المقرر بناء مستوطنات وقرى حديثة ومرنة لإعادة توطين اللاجئين، فإن هذا الهدف الرئيس ينطوي على تحديين رئيسيين: أولاً: من المحتمل ألّا يتم تزويد الحكومة السورية بالبنية التحتية اللازمة لبناء مثل هذه المستوطنات، وثانياً: سيكلف هذا المشروع الضخم أكثر من 28 مليار يورو ولا يوجد حتى الآن أي ضمان أن تقدّم دول الاتحاد الأوروبي مثل هذا المبلغ.
3. لا توجد حتى الآن حالة من الأمن والاستقرار في الأجزاء الشمالية من سوريا، ولهذا فإن اللاجئين السوريين لن يعودوا إلى هذه المناطق إلا عند ظهور حل دائم وسياسي للأزمة السورية، ويبدو أن الوصول إلى هذه النقطة سيستغرق وقتاً طويلاً، وربما يكون أحد الحلول التي يمكن أن تجعل الوصول إلى هذه المحطة أمراً سهلاً هو بداية عملية التطبيع في العلاقات التركية السورية.
العودة إلى اتفاقية "أضنة"
إن أحد الشروط المهمة في وثيقة النقاط العشر لاتفاق "سوتشي" الذي عُقد بين "فلاديمير بوتين" و"رجب طيب أردوغان" هي محاولة العودة إلى اتفاقية "أضنة" التي تم التوقيع عليها بين أنقرة ودمشق قبل عدة سنوات، وفي وقتنا الحاضر، توجد العديد من وحدات الدورية الروسية والتركية المشتركة في جزء من المناطق الشمالية السورية، وفي جزء آخر من تلك المناطق السورية توجد وحدات روسية سوريّة، ولكن إذا تم الاتفاق خلال الأيام القليلة القادمة على تطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا، والرجوع إلى اتفاقية "أضنة" مرة أخرى، فإن هذا سيخلق نوعاً جديداً من التنسيق الأمني والحدودي بين تركيا وسوريا، وسيخلق ظروفاً جديدة للطرفين، في الواقع، إن التطورات السورية الحالية أثبتت لـ"أردوغان" وغيره من المسؤولين الأتراك أن احتلال شمال سوريا وحتى إنشاء منطقة آمنة على عمق 30 كم في منطقة تبعد أكثر من 500 كيلومتر عن شرق الفرات، أمر لا يمكن تنفيذه بسهولة، ولهذا فإنه يمكن اعتبار عودة تركيا إلى اتفاق "أضنة" فشلاً استراتيجياً مُنيت به أنقرة.
وفي الختام يمكن القول بأنه على الرغم من أن تركيا حققت بعض أهدافها العسكرية في شمال سوريا من الناحية الاستراتيجية، إلا أنه عند النظر إلى الأبعاد السياسية والاجتماعية والأمنية المعقدة لهذه القضية، يمكن التوقع أن حكومة "أردوغان" ستواجه في الأسابيع والأشهر المقبلة العديد من التحديات الجديدة لإدارة هذه القضية.