الوقت- بين فينة وأخرى، من الواضح جداً أن السياسات الأمريكية تعيد حساباتها بما ينسجم والمرحلة، وعليه تحدد ما لها وما عليها، وتعمل وفق مقوماتها الجديدة وأدواتها الراهنة.
وما يتضح في المرحلة القائمة، أن الإدارة الأمريكية بقيادة دونالد ترامب، تبدو أكثر حكمة وحنكة في التعاطي مع بغداد ما بعد داعش، فما قبل الحرب ليس كما بعدها، وإذا ما عدنا إلى 2014 فإننا نجد أن السياسة الأمريكية اعتمدت بقاءها على الأراضي العراقية بذريعة محاربة الإرهاب، وبعد نهاية مسلسل الحرب بدأت السياسة الأمريكية تميل نحو ترجيح كفة المشتركات مع بغداد لضمان مستقبل وجودها، هذا ما أكده "جيمس جيفري" قبل أشهر، الباحث المخضرم والعالم بتفاصيل السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط عموماً والعراق على وجه الخصوص، كونه كان سفيراً في بغداد بين عامي 2010 و2012 وهي المرحلة التي شهدت الانسحاب الأمريكي من البلاد، وعليه لخص "جيفري" الاستراتيجية الأمريكية التي يجب اتباعها في العراق، مطالباً بالمسارعة في الحصول على ضمانة لبقاء جزء من القوات الأمريكية في العراق، واستغلال حجة "داعش" لتبرير الوجود الأمريكي على المدى الطويل حفاظاً على استراتيجية المواجهة مع إيران.
وفي آخر مقال صدر من (معهد واشنطن) قبل أيام لـ"جيفري" وزميله "مايكل ناتيس" المتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية للعراق وإيران والدول الخليجية، ركز الكاتبان على بناء علاقات مختلفة مع بغداد، بشكل يحافظ على مزايا واشنطن في العراق من دون التصريح بها، وحسب الكاتبان "لا ينبغي النظر إلى الوجود العسكري المستمر على أنه واجب أو حق أمريكي، بل كترتيب يعود بالفائدة على الطرفين ويسترشد بالمبادئ البسيطة نفسها التي رسمت أطر (عملية الحل المتأصل)"كما يعكس المقال أهمية ربط التعاون الأمني بشكل سري بتنفيذ أوسع لـ "اتفاقية الإطار الاستراتيجي" لعام 2008، التي تتخطى العلاقات العسكرية وتشكل أساس التعاون في مجالات الاقتصاد والسياسة والطاقة.
وإذا ما أعدنا النظر بالاتفاقية والعرض الأمريكي في تدريب القوات العراقية التي تتخذه أمريكا ذريعة لبقائها، فهذا سيعيد مسلسل الإحباط بقدرة القوات العراقية حسبما أثبتته التجربة مطلع 2014 بعد فشلها بالتصدي لـ "داعش" وكادت أن تفقد بغداد سيادتها.!
ولعل الإضافة الجديدة والصريحة التي طرحها المقال، هو اللعب بالورقة الكردية إزاء بغداد في حال لم تحصل واشنطن على نتائج سياستها الجديدة والمرسومة لما بعد الانتخابات العراقية المرتقبة، ويبدو أن واشنطن ستواصل سياستها المتوازنة ما بين الحكومة المركزية وأربيل لإبقاء خيار الضغط على بغداد مستقبلاً بالورقة الكردية، ومع الأكراد تلعب واشنطن اللعبة ذاتها، بتعزيز وجودها العسكري في الإقليم بحجة طمأنتهم بأن لدى واشنطن مصلحة قوية في منع اندلاع أي نزاع في المستقبل بينهم وبين بغداد.!
ويتفق الجميع على أن واشنطن سوف لن تكتفي بوجودها العسكري وحضورها السياسي، إنما تهدف إلى ضرب أي قوة عراقية شعبية، وعلى رأسها "الحشد الشعبي" الذي تسعى لإذابته في منظومة القوات المسلحة العراقية بصورة معقدة، يصعب لملمة استراتيجيته في المستقبل إذا ما أرادت اللعب بمقدرات البلد.
كتب "مايكل نايتس" مع العميد الركن العراقي "إسماعيل السوداني" الملحق العسكري في الولايات المتحدة من عام 2007 إلى 2009، مقالاً، وما تناوله الكاتبان فيه فرضته واشنطن على العراق لاحقاً، وعلى لسان وزير دفاعها، عندما دعا "جيمس ماتيس" إلى دعم القوات المسلحة العراقية وفي مقدمتها الشرطة العراقية، هذا يؤكد أن ما يصدر عبر "معهد واشنطن" من تحليلات وقراءات للسياسة الأمريكية، يحظى بأهمية كبيرة في دوائر صنع القرار الأمريكي، ويؤخذ به في قراءة الساحة العراقية بعد أن عايش هؤلاء الكتاب الشارع العراقي ونفسيته ومزاجه، وعليه فما يقال في التحليل ينتج عن واقع سياسة ما خلف الكواليس الأمريكية.
يبقى حديث الانتخابات العراقية عالياً، وسط ضجيج الداخل وترقب الخارج، وحذر ممزوج بقلق يراود الشارع من اختيار الرجل الأنسب للمرحلة الراهنة، مرحلة مصيرية حساسة مهمة، تشترك الهموم بين ملفات داخلية بالجملة،وتصدّع المواطن العراقي، إلى جانب قرارات مصيرية إزاء سيادة مطبخ صنع القرار العراقي من التدخلات الأجنبية، وعلى رأسها الأمريكي، والأهم منها هو الوجود الأجنبي العسكري على الأراضي العراقية تحت ذرائع شتى وبأساليب مختلفة، تقنع بعض القيادات لكنها مفضوحة من دون شك للقاصي والداني من العراقيين.