الوقت- "ثورة أم ربيع أم تحركات أو مؤامرة " كلها مصطلحات لن تغير حال ما وصل اليه الواقع العربي بعد سبع سنوات عجاف أصبحت وبالا على الشعوب التي لم تجنِ منها الا التفكك والاضطراب وغموض المستقبل بدلا من الغد الواعد.
7 سنوات وأكثر مرة على شرارة بائع الخضار والفاكهة التونسي بو عزيزي، وما تزال الشعوب العربية تتلظى بنارها، ومازال الحلّ السياسي في أغلب الدول التي اجتاحها هذا الطوفان بعيداً ، وعليه فلا يمكن القول أن ما حصل هو "الربيع العربي" لأن بضعة أزهار في بحر من الدماء لا تعلن وصول الربيع ولا تصنعه أبدا بل على العكس تصنع أقسى فصول الشتاء.
شعارات برّاقة كالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وغيرها من الشعارات التي تطرب لها آذان الشعوب في أي بقعة من الأرض رفعت خلال الحقبة الماضية، إلا أن حساب الحقل العربي لم يكن كحساب البيدر، فالعديد من التجارب العربية أخفقت في تكريس الحل السياسي، وما زالت تلك العبارات البراقة بعيدة عدة سنوات.
ورغم اختلاف التجارب بين دولة وأخرى، إلا ان المشترك الرئيسي هو تعثّر عملية الانتقال السياسي، وشعور الغالبية الشعبية العربية بالحنين الى عام 2010 ، أي قبل تفجر الأزمات أو الثورات (سمها كما تشاء) فرغم فقدان المواطن العربي في تلك الفترة الى أبرز مقاومات الحياة الكريمة (طبعا يختلف الامر بين دولة وأخرى) ولكن المقاربة العامة تؤكد أنه الان يفتقد الى أهمها على الاطلاق الا وهو الأمن والأمان الذي يعد الركيزة الأولى لبناء المجتمع، فالغد العربي وللأسف أصبح غامضا و الخوف و العجز هو سيد المرحلة بلا منازع ، والحراك العربي فشل في إحداث أي تغيير لأسباب عديدة يمكن ذكر ابرزها كالتالي:
أولاً: انهيار البنية العسكرية والأمنية في بعض الدول وأن كان هذا الامر يظهر بشكل واضح في التجربة الليبية، لكن الامر لم يكن اكثر بيضاوية في الدول الأخرى كسوريا ومصر وتونس.
ففي التجربة الليبية أدى الصراع المسلح بين السلطة والمعارضين إلى تشكل مشهد معقد للغاية وشهدت البلاد بعد انهيار المؤسسات الأمنية والعسكرية، انهيارًا شبه تام لمؤسسات الدولة وسلطتها على الأرض مصحوباً بتهديدات أمنية وسياسية للجوار الجيو - سياسي بمستوياته الإقليمية والدولية. كلها أدت الى الانحراف عن حالة الاستقراء النهائي، وأصبحت فوضى السلاح أكبر تهديد لقيام دولة الديمقراطية على أسس وقيم المواطنة.
أما في مصر وسوريا، فرغم تمكن الجيشان السوري والمصري من المحافظة على تماسكها الا ان تشكيل التيارات المسلحة في كلا البلدين كان له تأثير كبير على الوضع الأمني فيهما، ومع ذلك يمكن القول أن الدول التي حافظ فيها الجيش على هيكليته أثبتت أن الوضع فيها أفضل مما سيكون عليه الوضع في حال انهار الجيش، ومصر وتونس أحد هذه النماذج، حتى سوريا، ويخطئ من يعتقد ان انهيار الجيش السوري ورحيل الرئيس الأسد كان سيحدّ من نتائج الأزمة، فالواقع يؤكد ان ما يحصل اليوم أفضل الأمرين، لأن سوريا ستكون دولة لجماعات تكفيرية، كداعش والنصرة،.. اليوم ليست كذلك. الحديث عن عملية انتقال سياسي ينفع فقط في الصالونات، كون الجماعات التكفيرية المسلّحة كان هدفها السطوة على الحكم، وبالتالي كانت ستهاجم كل من يخلف الرئيس الأسد.
ثانياً: عدم وجود ثقافة قبول الطرف الآخر، اذ لم تكن النخب العربية على أهل المسؤولية، وكان لديها مشكلة كبيرة مع مفهوم الديمقراطية وآلية تطبيقها، وفشلت في قيادة الشارع والعبور به من خلال مرحلة انتقالية الى مرحلة أكثر وضوحا وتأسيس خطاب علمي حول الأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى، وافتقدت للرؤى الواضحة وسلمت ببساطها نفسها لأيادي خارجية عبثت بأمن البلاد وأدت الى إعاقات بنيوية سياسية وفكرية وظهور بعض التخبط في الرؤى والسياسات والقرارات، كما أن الوعي الشعبي اتضح أنه "متدن"ّ من خلال تجربة الربيع العربي، واتضح أن ثقافة قبول الاخر (المختلف عرقيا أو دينيا أو طائفيا) غير موجودة أو ضعيفة في أحسن أحوالها، مما أدى الى انخراط أغلب الشبان المتحمسين، الذين كانوا وقود الحراك، عندما فشلوا في تحقيق أهدافهم سياسياً بتيارات مسلحة بعضها تكفيري، وبالتالي انخرطوا في عرقلة أي مسار سياسي وفق تعليمات قيادة هذه الجماعة.
ثالثاً: لعبت بعض الدول الغربية والعربية دوراً بارزاً في عرقلة الحل السياسي سواء عبر دعم الجماعات المسلحة (كما هو واضح في التجربة السورية التي خلقت عشرات التنظيمات المسلحة ولاء كل منها يتبع للدولة التي تمولها) او عبر محاولات فرض شخصيات سياسية لصالحها لا تحظى بمقبولية ( كالمرزوقي في تونس ومرسي في مصر).
رابعاً: دور الإعلام السلبي (الجزيرة في التجربة المصريّة، والقنوات الخليجية بالمجمل في التجربة السورية) الذي تمكن من حرف التحركات من مطالب محقة وتوظيفها لتجيير مشروع سياسي خارجي اتجاه الازمة، فوسائل الإعلام هذه على تنوعّاتها وتعارضاتها أثّرت كثيراً في وعي الموطن العربي، وعملت على احداث شرخ كبير ليس بين الشارع العربي والسلطة فحسب بل امتد الى الشارع العربي نفسه، وفي ظل غياب الموضوعية في تناول الأحداث مع كثرة النبرات الطائفية، العقائدية الأيديولوجية، وضعف الاعلام الحكومي في صد هذه النبرات، وتعميق فكرة تكريس المواطنة والتحذير من المصطلحات الطائفية كالأقليات وغيرها وصل الأمر الى ما هو عليه الآن.
البحث في قضية كقضية الواقع العربي بعد أكثر من 7 سنوات على شرارة البوعزيزي ربما تحتاج الى مجلدات ولا يكفيها مقالة أو بحث هنا أو هناك وحتى الأسباب التي تم عرضها هنا كل منها قضية بحد ذاته، ولكن ما يمكن استخلاصه ان "الربيع العربي" انتهى بشكل مؤكد شكلا ومضمونا، والمستقبل أكثر غموضا ولكن الامل بثورة في الوعي العربي قبل ان تكون ثورة في الشوارع موجود، واستخلاص عِبَر الماضي ربما هو طريق الخلاص.