الوقت- شكّلت عملية استعادة السيطرة على كركوك ضربة قاصمة للبارزاني. الضربة النوعيّة لمشروع "مسعود" الانفصالي تمثّل مقدّمة طبيعية لضربات لاحقة ينتظرها البارزاني الذي خسر بالأمس رصيداً سياسياً واقتصادياً غير مسبوق دأب على انتزاعه بالقوّة من خلال عملية الاستفتاء الغير دستوريّة.
ما قبل كركوك
السؤال الأبرز يتعلّق بمصير البارزاني، فلماذا يعتبر بارزاني اليوم هو الخاسر الأكبر من الاستفتاء بعد أن كان يعتقد أنّه الرابح الأكبر؟ أين الخلل الذي حصل في حسابات البارزاني؟ هل كان استثمار السنوات العشر لعائلة البارزاني مع تركيا خطأً؟ هل طعنوه الأتراك في الظهر؟ عشرات الأسئلة المشابهة طرأت بالأمس على ذهن المشاهدين والمحلّلين لأحداث كركوك.
اعتقد البارزاني أنّه سينجح في جذب الأتراك صوبه في حال مضى بالاستفتاء، وبالتالي في حال تراجعت تركيا عن دورها في مثلّث بغداد-طهران-أنقرة، سيشكّل الضلع الشمالي لهذا المثلّث ممرّاً آمناً للبارزاني الذي وضع كل بيضه في سلّة أردوغان. لكن ايران وخلال أشهر قليلة فقط نجحت في هدم سنوات العلاقة بين البارزاني وأردوغان.
هل تذكرون قضيّة دعم الأتراك لداعش التي طرحها الروس في الأمم المتحدة وتضمّنت فيديوهات لمئات شاحنات النفط المهرّبة نحو تركيا؟ حينها لم يصدّق أحداً ان عمليّة التصوير هذه روسيّة، بل حتّى أن الأتراك اتهموا حينها ايران بتسريب هذه الفيديوهات لموسكو التي تصدّت بدورها لنشرها في خضام الخلاف التركي الروسي. هذا السيناريو فعلته أيضاً ايران بين أردوغان والبارزاني.
فرغم إعلان البارزاني مخالفته لحزب العمال الكردستاني المتواجد على الحدود التركيّة العراقيّة، إلا أنّه في الواقع كان الأمر مختلف تماماً، لكنّ الضربة الكبرى التي تعرّض لها البارزاني هي نشر ايران وثائق تعاونه مع حزب العمال الكردستاني، مثل قضيّة الشاحنات النفطيّة، حيث تمّ تسليمها لأردوغان لتأتي الرسالة من أنقرة إلى طهران عبر وزير الدفاع: هل أنتم معنا إلى آخر الطريق؟ فتأتي الإجابة: نحن لا نمزح مع أحد في الدفاع عن مصالحنا الوطنيّة. الأحداث السابقة نجحت من خلالها طهران في ترتيب الأوراق السياسيّة، والعسكريّة لاحقاً من خلال التعاون بين رؤساء الأركان في الدول الثلاث الأمر الذي مهّد إلى ما حصل بالأمس في كركوك، ناهيك عن الدور الرئيسي الذي لعبه اللواء قاسم سليماني في السليمانيّة إذ نجح في هندسة إخراج قوات البيشمركة بأقل الخسائر الممكنة، بعد أن قرأ الفاتحة على قبر الرئيس الراحل جلال طالباني، فما هي تداعيات انتصار بغداد على أربيل في معركة الساعات التسع؟
التأثيرات والتداعيات
تحمل العمليّة العسكرية النظيفة بالأمس جملة من التأثيرات والتداعيات على المشهد العراقي بشكل العام، والكردي على وجه الخصوص، يمكن إيجازها بجملة من النقاط:
أوّلاً: وفي حين تشكّل استعادة كركوك النفطيّة عائقاً أمام الثروة المفرطة لعائلة البارزاني كونها تضمّ 330 بئر منتجة بمعدّل إنتاج 35 ألف برميل يومياً للبئر الواحد، واحتياط عام يقدّر بـ13 مليار برميل تشكّل 12 بالمئة من اجمالي الاحتياطي النفطي العراقي، أعادت المعركة توزيع القّوات الكردية إلى مرحلة ما قبل العام 2014 حيث استغّل حينها الأكراد، البيشمركة وحزب العمّال الكردستاني، الأوضاع للسطوة على مناطق استراتيجية للأكراد من الناحيتين الديموغرافيّة والاقتصاديّة.
ثانياً: قصمت معركة الأمس ظهر البيت الكردي، المنقسم أساساً، كونها عزّزت الشرخ القائم بين الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني، بل بين الأوّل وأغلب الأحزاب الكرديّة المستأءة من سطوة وهيمنة بارزاني وإن وافقته في الاستفتاء. يرى الأكراد أنّه لولا خطوة البارزاني الانفصالية لظلّت كركوك وغيرها من المناطق المتنازع عليها في قبضة البشمركة، وبالتالي يمكن القول أنّه فشل في تكريس كمحقّق للحلم الكردي. هنا، لا نستبعد بعد فكفكة القوى الكرديّة، بسيادة ثنائيّة في المناطق الكرديّة عبر عودة السليمانيّة إلى بغداد وخروجها من كنف أربيل.
ثالثاً: اتهم البارزاني، بيشمركة الاتحاد الوطني بالخيانة، فلماذا لم تقاتل قوّاته وقرّرت الانسحاب؟ تشير معلومات ميدانيّة إلى أنّ 80 بالمئة من القوّات المنسحبة ليسوا عراقيين، ولو أنهم كذلك لما انسحبوا بهذه السرعة من تلك المناطق، إلا أن اعتبار بغداد تواجدهم بمثابة "إعلان حرب" سرّع في عملية الفرار الكردي. في الحقيقة إن عملية الأمس أفقدت قوّات البيشمركة التي يتوكّز عليها البارزاني هيبتها.
رابعاً: لا تقتصر النتائج على الشقّ الكردي، بل إن العمليّة النوعية بالأمس تشكّل رادعاً قويّاً أمام أي تحرّكات انفصالية في ظل معادل الجيش والحشد والشرطة. ستخفت الأصوات الانفصالية التي تنادي بالاستقلال عن السيادة العراقيّة، بالتزامن مع عودة الكثير من المناطق التي سيطر عليها الأكراد كسنجار التي دخلتها القوّات العراقيّة دون مقاومة، وبالتالي لن تكتفي الحكومة العراقيّة بكركوك.
في الخلاصة، مرّة أخرى تنجح الدولة العراقية، بحكومتها وشعبها، بجيشها وحشدها وشرطتها بالحفاظ على وحدة العراق وإفشال مشروع التقسيم، عبر معادلة "الجيش-الحشد-الشرطة" الذهبيّة، وهو إنجاز لا يقلّ أهمية عن استعادة الرمادي والموصل والحويجة وغيرها من تنظيم داعش الإرهابي، الأمر الذي سيعزّز القواعد والأسس الداخليّة للحكومة العراقية، في حين أنّه سيمنحها هيبة واقتدار إقليمي ودولي افتقدته بغداد منذ عشرات السنين، بینما سقط حجر الزاوية في مشروع انفصال كردستان وسقط معه البارزاني.