الوقت- تتوالى فصول الخلاف بين أنقرة وواشنطن. آخر فصولها تمثّلت في إصدار السلطات القضائية التركيّة أمراً بتوقيف "متين توبوظ" الموظف في القنصلية الأمريكية في إسطنبول بتهمة التجسّس والتواصل مع مجموعة الداعية فتح الله غولن المقيم في أمريكا.
الموظّف التركي الذي يعمل بالسفارة الأمريكية، وبخلاف 290 آخرين تمّ اعتقالهم بالتهمة ذاتها، فجّر أزمة دبلوماسيّة بين البلدين، ففي حين نفت السفارة الأمريكية في تركيا، وأعلنت تعليق التأشيرات للأتراك، ردّت أنقرة بالمثل عبر وقف منح التأشيرات للأمريكيين.
يميل البعض إلى نظرية تأزيم تركيا للعلاقات مع واشنطن حالياً، بغية إجبار الأخيرة على ترتيب علاقاتها مع أنقرة، ومن ضمنها تسليم الداعية فتح الله غولن، في تجربة تتشابه مع السيناريو التركي الروسي بعد حادثة إسقاط طائرة السوخوي الروسيّة. ورغم استناد هؤلاء إلى براغماتيّة أردوغان الواضحة وتصريحه الأخيرة الذي أدلى به في أوكرانيا، خلال مؤتمر صحفي له مع نظيره الأوكراني "بيترو بوروشينكو"، بعد لقائهما في كييف، وقال فيه إن تركيا تدعم سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، ولن تعترف بتبعية شبه جزيرة القرم للاتحاد الروسي، ليردّ عليه عضو مجلس الاتحاد الروسي، "أليكسي بوشكوف"، عبر تغريدة على صفحته في تويتر، قال فيها: "سواء اعترف أردوغان بتبعية القرم إلى روسيا أم لا، لن يتغير بذلك وضعا لقرم، إنه يعرف ذلك، ويفعل ما يرضي بوروشينكو لا أكثر"، رغم كلّ ذلك، إلا أن وقائع الخلافات، في أسبابها ومضامينها، تؤكد أن الأزمة مرجّحة للاستفحال أكثر فأكثر.
وقبل الدخول في مستقبل العلاقات بين البلدين، لا بدّ من الوقوف على حقيقة المتّهم التركي توبوظ، خاصّة أن واشنطن تمتلك باعا طويلا في انتهاك السيادة الأمنيّة للدول، الصديقة قبل العدوة، عبر السفارات الدبلوماسيّة، التي تعدّ مركزاً لجواسيس العالم، أو بعبارة أدقّ وكراً للتجسس.
متين توبوظ
هناك اتهامات عدّة وجّهها القضاء التركي للمتهم توبوظ، وقد أعلن وزير الخارجية التركي "مولود جاويش أوغلو"، يوم الجمعة الماضي، أن هناك أدلة خطيرة ضد موظف القنصلية الأمريكية.
ظهر اسم "متين توبوظ" خلال التحقيقات الجارية حول منظمة غولن المتّهمة بتنفيذ محاولة انقلاب 15 يوليو /تموز 2016 الفائت، حيث تبيّن للنيابة العامّة خلال التحقيقات علاقته مع المدعي العام الهارب "زكريا أوز"، أحد أعضاء منظمة غولن البارزين، والذي كان ضمن القائمين بمحاولة قلب الحكومة التركية أواخر 2013. الاتهامات التي وجّهت لتوبوظ عديدة، وهي كالتالي:
أوّلاً: التجسس لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، إضافةً إلى وجود اتصال بينه وبين عناصر من القاعدة، حيال الهجوم على بنك HSBC في بريطانيا، إضافةً إلى اتصالات سرية مع عدة أسماء من تنظيم القاعدة الإرهابيّ، خلال أحداث حديقة "غيزي بارك" التركية عام 2013، بهدف استهداف رجال الاستخبارات التركية.
ثانياً: استخدمه خطًّا للتواصل مع عدّة جهات، تحت اسم مزوّر، حيث كشفت التحقيقات أنّ الخط الذي يتصل من خلاله مسجل باسم "متين أدانور".
ثالثاً: ارتباطه المباشر مع اسمين من الفريق التقنيّ الذي كان يتنصت على محادثات أردوغان وكبار المسؤولين، بغية قلب النظام الدستوري والحكومة في تركيا.
رابعاً: تثبيت علاقته بين توبوظ وبين عناصر من الشرطة التابعين لمنظمة غولن، حيث قام بالاتصال بأكثر من شخص، عدا اتصالاته بعدّة ضباط عسكريين شاركوا بالمحاولة الانقلابية، هم الآن رهن الاعتقال.
إن ثبوت أي تهمة من هذه التهم كفيلة باعتقال توبوظ، إلا أن الأنظار اليوم تتّجه نحو العلاقات بين أنقرة وواشنطن، البلدين العاملين ضمن حلف الناتو، لاسيّما في ظلّ التوتّرات القائمة التي بدأت شراراتها بعد الانقلاب الفاشل وتأزمت بشكل أكبر في آخر حقبة أوباما وحتّى تسلّم ترامب للرئاسة. اذا الأزمة الجديدة ليست وليدة اللحظة بل عبارة عن أزمات متراكمة ومتتالية خلال السنوات القليلة الماضية والتي تعتبر الأسوأ في تاريخ العلاقات بيت البلدين منذ الحرب الباردة.
فمن الانقلاب الفاشل والتهم الموجّهة نحو دور أمريكي، إلى الخلافات حول تسليم غولن، ولاحقاً معارضة واشنطن للاستفتاء الرئاسي، وبعدها توجيه أمريكا تُهمًا جنائيّةً إلى ثلاثة من حُرّاس الرئيس أردوغان بتُهمة الاعتداء على مُتظاهرين أثناء زيارة الرئيس التركي لها في أيار (مايو) الماضي، والمطالبة بتسليمهم، أعدّ أردوغان العدّة لمواجهة واشنطن، إلا أن كلمة السرّ تمثّلت في الدعم الأمريكي للأكراد، الأزمة الأكبر بين البلدين، ليردّ الرئيس التركي الصاع صاعين بالتوجّه نحو روسيا، ولاحقاً طهران، والتوقيع على صفقة صواريخ “إس 400″، الخطوة التي وُصفت بالقشة التي قصمت ظهر العلاقات مع واشنطن.
إن التحالف بين أمريكا وتركيا تعرض لضربات قاسية، وفقا لصحيفة الواشنطن بوست، ليأتي القرار المتبادل بإلغاء تأشيرات السفر ويكشف عن مدى اتساع الفجوة بين شركاء حلف الناتو، الذين باتوا يمتلكون مصالح متعارضة. هذا التعارض دفع بواشنطن للضغط العلني من خلال تأشيرات السفر، ويرجّح مراقبون تلويح واشنطن بأوراق أخرى باعتبار أن القضاء الأمريكي قد عرض خلال الشهر الماضي، قضايا تدور حول مساعدة تركيا لإيران في التهرب من العقوبات الدولية التي فرضت عليها في السنوات الماضية بسبب برنامجها النووي.
لا ندرى مدى تطوّر الأزمة إلى مراحل أخطر، نظراً لحاجة كلا البلدين لبعضهما في جملة من الملفات، رغم التعارضات الكبرى، إلا أنّ تركيا نجحت حتّى الساعة في كسر شوكة واشنطن من خلال ردود الأفعال، لاسيّما في ظل تحالفها الثلاثي مع ايران وروسيا الذي منع واشنطن من امتلاك ورقة سياسية ضد تركيا، فهل يواصل الطرفان مراكمة الخلافات أم سنكون أمام انفجار يغيّر قواعد الاشتباك بين البلدين؟