الوقت - منذ وصول ترامب الى البيت الأبيض ومباشرة عمله كرئيس لأمريكا، واتخاذه مواقف حادة تجاه أوروبا في إطار الانفرادية وسياساته القومية، وردود الأفعال الأوروبية تجاه هذه المواقف التي تأتي للتأكيد على الجهود الرامية إلى الاستقلال، كان لها انعكاسات اكبر من امريكا، حيث اعادت الحديث مرة اخرى عن الفجوة بين اوروبا والولايات المتحدة. ولكن كيف سيكون حجم وأبعاد هذه الفجوة؟ وهل يمكن القول بأن أوروبا اختارت طريقا بعيدا عن الولايات المتحدة؟ للإجابة على هذا السؤال، هناك نقطتان رئيسيتان: أولا، الفرق الموجود بين قدرة وإمكانيّة الاتحاد الأوروبي للقيام بذلك، وثانيا، إلى أي مدى يستطيع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أن يبتعدا عن بعض؟
وتركز المقالة الآتية في قسمها الأول من أقسامها الثلاث على الاتجاهات السابقة وإطار التعاون السياسي والأمني والاقتصادي بين أوروبا وأمريكا. في القسم الثاني، تناقش الاختلافات والثغرات التي نشأت نتيجة للتطورات الأخيرة، ويناقش القسم الثالث حول أبعاد ومدى هذه الفجوة في العلاقات بين الجانبين.
1- إقامة علاقات استراتيجية خلال الحرب الباردة
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فإن ظهور تهديد أمني مشترك من الاتحاد السوفياتي والشيوعية، ارغم أوروبا والولايات المتحدة بضرورة توطيد علاقاتهما السياسية والأمنية اكثر من ذي قبل. وفي الحقيقة، لم يكن أمام الطرفين خيار سوى ذلك. ونتيجة لذلك، تم خلال الحرب الباردة إنشاء مؤسسات وأطر مختلفة لتنمية وتعميق العلاقات، واستند إطارها إلى اتفاقات من قبيل ميثاق المحيط الأطلسي وخطة مارشال ومعاهدة واشنطن.
حاليا، مقر بعثة المفوضية الأوروبية في الولايات المتحدة هو نقطة الاتصال الرئيسية مع الحكومة الأمريكية في جميع الحالات، وتُرفع تقارير عن جميع الأنشطة والإجراءات الأمريكية إلى مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل، ولها علاقات واتصالات بصفتها ممثل سياسي كامل مع بقية الممثلين السياسيين في العاصمة واشنطن.
وعلى العموم، يمكن القول إن العلاقات الأمنية بين أوروبا وأمريكا كانت عميقة خلال الحرب الباردة، ولم يتردد الجانبان في ضرورة تعزيزها واستدامتها.
1-1 انتهاء الحرب الباردة وبداية الشكوك
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومع اختفاء التهديد المشترك، تم تخفيض مستوى التعاون، ليصبح التحالف الغربي موضع تساؤل جدي حينها. يعتقد بعض منظري الفلسفة الواقعية أنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، انهارت أسس التعاون العابرة للأطلنطية (وجود عدو مشترك) تماما. ومن وجهة نظرهم، فإن الناتو فقد فلسفة وجوده، ويبدو من غير المحتمل أن يستمر وجوده. وعلى النقيض من هذا الرأي، كان الليبراليون متفائلين بشأن استمرارية التعاون العابر للأطلنطي في فترة ما بعد الحرب الباردة. وبالنسبة لليبراليين، فإن هذا المجتمع كان رمزا لمجتمع سياسي دولي حيث يُعتبر في نفس الوقت مجتمع أمني ومنطقة جيوسياسية ذات قيم ومؤسسات ومصالح ومناهج مشتركة.
ما حدث في الواقع هو مزيج من النهجين: بمعنى أنه وفقا لتوقعات فلاسفة الواقعية، كانت العلاقات الأمنية الأمريكية الأوروبية في توتر إلى حد ما، وسَعت الدول الأوروبية إلى انتهاج سياساتها الدفاعية والأمنية بطريقة جادة، وتقليل اعتمادهم على الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى، استمر التعاون بين أوروبا والولايات المتحدة في العديد من المجالات، مع هذا الفرق أنه بعد ذلك، انتقل التعاون من المجال العسكري باتجاه المجال الناعم.
ومع بدايات القرن الجديد، اتسعت الخلافات الأوروبية الأمريكية مرة أخرى، وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001، اتخذت أمريكا نهجا أحادي الجانب للرد على هذه الهجمات والإجراءات على الساحة الدولية، والتي لم يتفق الأوروبيون معها كثيرا. ونتيجة لذلك، اشتدت المناقشات والجدل مرة أخرى بشأن الخلاف بين أوروبا والولايات المتحدة.
بيد انه خلال الفترة الثانية من ادارة بوش، اتجه الجانبان نحو نزع السلاح وتعزيز تعاونهما، وخاصة في مجال مكافحة الارهاب وانتشار اسلحة الدمار الشامل. ومع قدوم اوباما الذي يتمتع بشعبية كبيرة بين الاوروبيين ووُصف بأنه اكثر رئيس اوروبي للولايات المتحدة، فان مستوى العلاقات الثنائية أخذ في الاتساع وتزايد تعاونهما في مختلف القضايا الدولية.
2-وصول ترامب الى سدة الحكم والفجوة في العلاقات الاوربية الامريكية
إن التطورات على مدى السنوات القليلة الماضية، بما في ذلك هجوم روسيا على أوكرانيا، الاتفاق النووي الإيراني، ظهور تنظيم داعش الارهابي وتصعيد أزمة الهجرة، وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإستعداد أوروبا للاستقلال اكثر في التعامل مع هذه القضايا، ساهم بحد ما إلى تهئية الظروف لإيجاد فجوة في العلاقات بين أوروبا وأمريكا. ولكن الموضوع الذي غذى هذه الفجوة ودفع عودة ظهور المناقشات حول انفصال أمريكا وأوروبا كان وصول ترامب رئيسا للبيت الأبيض.
وهناك مجموعة متنوعة من المواضيع جعلت أوروبا تنتهج نهجا مختلفا ومستقلا تجاه ترامب. أولا، ان ترامب، تخلى عن مبدأ تعددية الأطراف في سياسة أوباما الخارجية، وجعل الانفرادية مرة أخرى تسود في في السياسة الخارجية. الفرق الثاني بين الأوروبيين وترامب هو بسبب مواقفه في مجال الاجراءات الداعمة للاقتصاد التي هي ضد مبادئ التجارة الحرة التي من شأنها أن تؤثر على مصالح أوروبا، وخاصة في صناعة السيارات.
اختلاف أوروبا الأهم والأكبر مع ترامب هو بالنسبة لروسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)؛ بعد التطورات في أوكرانيا وضم القرم إلى روسيا، فضلا عن تحركاتها في منطقة البلطيق وأوروبا الشرقية في السنوات الأخيرة، ترى أوروبا الآن روسيا تهديدا رئيسيا لها. لكن ترامب يرى ان الروس هم المشكلة الاكبر في أوروبا، وأي دعم لأوروبا ضد روسيا في إطار الناتو مشروط بزيادة سهمهم في الإنفاق العسكري. إن الاتفاق النووي الإيراني وضرورة الالتزام به هما أيضا من أهم مجالات الخلاف الأوروبي مع الولايات المتحدة.
3- الآثار المترتبة على العلاقات الأمريكية الأوروبية بسبب الفجوة
كما ذكر آنفا، فإن المناقشات حول الفصل والفجوة بين أوروبا وأمريكا بعد الحرب الباردة تكثفت خلال فترتين من الزمن. ولكن هذه المرة يبدو أكثر خطورة وأكثر أهمية لثلاثة أسباب. السبب الأول هو التغيير في الأولويات الاستراتيجية لكلا الجانبين مقارنة مع تسعينات القرن الماضي (1990). في الظروف الحالية، في حين أن أوروبا تشعر بالتهديد من قبل روسيا أكثر من أي وقت منذ الحرب الباردة، حددت الولايات المتحدة الصين كأولوية قصوى لها تُهدد مصالحها، واصبح التوجه نحو آسيا الذي اُعلن عنه حتى قبل عصر ترامب، اي في عصر أوباما، يمشي بسرعة اكبر وخطوات متسارعة اكثر. ورغم المشاكل التي تتعلق باوروبا والشرق الاوسط، يرى رئيس الولايات المتحدة أساسا أن هذه القضايا والمشاكل ذات أهمية أوروبية وليس لأمريكا أي قلق في هذا الصدد.
الأمر الثاني، الذي قد يصبح أكثر أهمية مع مرور الوقت، هو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فقد كانت بريطانيا منذ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي دائما، الجسر المؤدي الى الوحدة والتماسك العابر للاطلسية، وفي الوقت نفسه، كانت أداة النفوذ الأمريكي في الاتحاد الأوروبي. والآن مع غياب بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، اصبح بإمكان الدول الأوروبية أتخاذ موقفهم بوحدة وبحرية اكبر تجاه الولايات المتحدة.
والنقطة الثالثة التي تضاف إلى أهمية الفجوة الحالية في العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة مقارنة بالفترات السابقة، هي أن رئيس الولايات المتحدة ليس فقط لا يبدي أي رغبة في حل النزاعات وتحسين العلاقات، بل يطعن في أساس هذه العلاقات ويرى أنها متناقضة مع مصالح أمريكا. لذلك، بالمقارنة مع فترة ما بعد الحرب الباردة ورئاسة بوش الابن، يجب القول إلى أن هذه الفجوة في العلاقات الأوروبية الأمريكية ستكون أكثر خطورة وأكثر أهمية، ويبدو أننا سوف نرى إتساع أبعادها في المستقبل.
ولكن الى اين تمتد اعماق هذه الفجوة؟ الحقيقة أنه عند تقييم هذه المسألة، ينبغي للمرء أن يكون حذرا، وينبغي أن لا تكون الاختلافات المذكورة أعلاه، والتي تكون في بعض الحالات هامة وخطيرة أيضا، سببا لنهاية الاتحاد الغربي. على الرغم من أن لدى أوروبا رغبة كبيرة في الاستقلال عن الولايات المتحدة واعتمادها على نفسها في مختلف القضايا والأزمات، لكن الحقيقة هي أن قوة هذه المجموعة لا تتماشى مع رغباتها في هذا المجال. مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، انخفضت قدرة الاتحاد الاوروبي اللوجستية والعسكرية جدا بحيث لن تتمكن من التدخل في صراعات مباشرة والتنسيق فيما بينهم لمواجهة التهديدات التي تواجههم.
لكن أبعد من ذلك، هو إن ما يربط أوروبا والولايات المتحدة ببعضها البعض أكثر صلابة واستقلالية عن هذه القضايا. بالإضافة إلى الوحدة الأيديولوجية، لكنهما بشكل عام توجد بينهما "اتحاد طبيعي". إن أوروبا والولايات المتحدة تعملان كلاعبين اساسيين في صالح الإبقاء على الوضع الراهن في النظام الدولي، ومن الطبيعي أن يتحدا ضد أي تهديد أو تحدي يهدد النظام القائم. ومن هذا المنظور، فأن اوروبا وامريكا نظرا الى ابعادهما الايدلوجية والاستراتيجية، سيواجهون قوى بحجم روسيا والصين وايران. لأنهم يرون أنهم منافسي النظام الدولي القائم.
الاستنتاج:
واجهت العلاقات الأوروبية والأمريكية تحديات خطيرة منذ مجيء ترامب، وسيطر التوتر على وحدتهم الطويلة الأمد أكثر من أي وقت مضى. فمن ناحية، تتطابق هذه الفجوة مع الواقع الاستراتيجي الجديد، ومن ناحية أخرى، فإن التطورات مثل توجه أمريكا إلى الشرق، والانتخابات، ومجيئ ترامب إلى الحكم، زادت من تفاقمها. ولكن النقطة التي ينبغي أن تؤخذ في عين الاعتبار هي أن هذه الاختلافات لا ينبغي اعتبارها انفصال كامل بين هذين الاثنين من بعضهما، حيث يعتقد أن أوروبا يمكن أن توضع ضد أمريكا. على الرغم من أن أبعاد ومدى الاختلافات بين أوروبا وأمريكا اليوم يتجاوز ما وصفه روبرت كاغان في بدايات القرن الجديد، ولكن يجب ألا ننسى أنه في التقسيم العالمي الاستراتيجي، تبقى الولايات المتحدة وأوروبا معا.