الوقت- تعيش الولايات المتحدة الأمريكية حالة غير مسبوقة من التخبط السياسي والعسكري، ولا أحد يعلم إلى أي مستنقع جديد سيأخذها رئيسها المتهور، حتى هو نفسه تائه في بحر تصريحاته النارية التي لم تتوقف منذ أكثر من 200 يوم، يكيل الوعيد لدولة ويهدد بغزو دولة أخرى ويطالب الجميع بالخضوع تحت سيطرته أو دفع أموالهم له، ولكن ترامب على ما يبدو لا يعي حقيقة التحولات الجذرية التي تجري في العالم وأن سياسة قطبه الواحد تلفظ أنفاسها الأخيرة إن لم نقل عفا عليها الزمن ومضى.
ترامب يهدد فنزويلا
عاد ترامب لأسلوبه المعتاد بتهديد شعوب العالم وحكوماتها، ولكن هذه المرة كانت وجهته الجارة فنزويلا، حيث أعلن الرئيس الأمريكي يوم أمس "أنه يدرس خيارات للردّ على الأزمة السياسية المتصاعدة في فنزويلا، تشمل تدخل الجيش الأمريكي"، لإحلال ديمقراطية أمريكا المعتادة، واستعرض ترامب مقدرات بلاده وقدرات جيشه الذي يملك قواعد في جميع دول العالم، ملمحا إلى أن فنزويلا ليست بعيدة جدا وبالتالي يستطيع توجيه ضربة عسكرية لها بسهولة إذا لزم الأمر، هذا ما يعتقده ترامب الذي يخاف على شعوب العالم مظهرا نفسه على أنه حمامة سلام، ولكن بالمقابل نرى أنه لا يتكلم إلا بالمنطق العسكري، ولمن لا يدري فإن ترامب لا يعطي أي أهمية لوزارة خارجيته وهذا واضح من خلال علاقته الباردة وخلافاته المتكررة مع وزير خارجيته ريكس تيلرسون.
بالمقابل يولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أهمية كبيرة لوزارة الدفاع، وهذا مؤشر واضح وصريح بأن ترامب يملك توجها عسكريا ونزعة جنونية للقيام بشن حملات عسكرية على دول هنا ودولة هناك، دون إعطاء أي دور للدبلوماسية والسياسة الناعمة.
وبعد أن صرح ترامب خلال شنه حربه الإعلامية ضد فنزويلا بأن "الخيار العسكري هو بالتأكيد طريق يمكن أن نسلكه"، جاءه الرد سريعا من وزير الدفاع الفنزويلي فلاديمير بادرينو لوبيز،الذي وصف تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول إمكانية التدخل العسكري في بلاده بـ "التصرف المتهور والأحمق"، وأشار إلى أنها: "خطوة متهورة، وتشير إلى أعلى مظهر من مظاهر التطرف في الولايات المتحدة، حيث يحكم النخبة المتطرفة".
نقطة هامة جدا، فور خروج الرئيس ترامب بتصريحاته النارية ضد فنزويلا خرج المتحدث باسم البنتاغون، إيريك بيون، وقال "إن الجيش الأمريكي لم يتلق أي تعليمات حول اعداد عملية عسكرية ضد فنزويلا". هذا الأمر يثبت زيف تصريحات ترامب الخلبية التي اعتمدها كأسلوب خاص به منذ توليه مفاتيح البيت الأبيض ليرعب شعوب العالم ويرفع سقف الاحتمالات بوجود حرب عالمية ثالثة توشك أن تحدث، وهذا أسلوب تجاري بحت يتناسب مع البيئة التي جاء منها ترامب، لأن هذه التهديدات النارية تجعل دولا حليفة للولايات المتحدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية تعقد صفقات عسكرية بمليارات الدولارات لحماية مصالح بلادها.
ترامب وعقدة كوريا الشمالية
لا يكل ولا يمل ترامب من تهديد كوريا الشمالية ورئيسها الشاب كيم جونغ أون، بالمقابل ترد بيونغ يانغ بالمثل وهكذا تجري التهديدات والوعيد بينهما دون أي خطوات فعلية على الأرض، باستثناء تجربتين صاروخيتين أجرتهما كوريا الشمالية مؤخرا.
يوهم ترامب العالم أجمع بأن دقائق معدودة تفصل واشنطن عن تدمير كوريا الشمالية، حتى أن مسؤول عسكري أمريكي رفع سقف التحدي مع بيونغ يانغ وكشف عن قدرة جيش بلاده بسحق كوريا الشمالية وتسويتها بالأرض، في غضون 15 دقيقة فقط، في حال شنت بيونغ يانغ هجوما نوويا ضد الولايات المتحدة.
هذا الكلام يقال في الإعلام فقط ولا يمكن أن يصبح حقيقة واقعة لمجموعة من الاعتبارات نلخصها بالتالي:
أولاً: أمريكا لا تدخل في أي حرب مع جيش عقائدي، وبالتالي قد تتدخّل في الدول التي لا تمتلك هذا الجيش، مثلا "العراق" لم يستطع جيشها أن يصمد لساعات رغم كل التجهيزات التي كانت بحوزته. أمريكا هدّدت العديد من الدول بالخيار العسكري، إلا أنّ هذه التهديدات بقيت رهن الشاشات الإعلاميّة لا أكثر.
ثانياً: أمريكا تعلّمت هذا الدرس من الفيتنام، وما زالت حتى اللحظة تعاني من اجتياحها لفيتنام وكارثية ما حصل، وبعدها اعتمدت سياسة الحرب بالوكالة مثل "الحرب المفروضة على ايران"... وخلال الحرب الإيرانية العراقية قال هنري كسينجر: هذه أول حرب في التاريخ نتمنى ألا يخرج فيها أي منتصر، وإنما يُهزم فيها الطرفان"، وهذا يكشف بوضوح أسلوب واشنطن الجديد في التعاطي مع حروبها الجديدة.
ثالثاً: هذه التصاريح وإن لم تنفّذ فإنها تسعى لإعادة الهيبة الأمريكية المفقودة بدءاً من الشرق الاوسط مروراً بأوكرانيا ووصولاً إلى الشرق الآسيوي. أمريكا تشعر اليوم بخسارتها للقطبية العالمية عبر تقاسمها مع دول عدّة. قد يؤدي الجنون الأمريكي إلى حرب عالميّة ثالثة، إلا أن واشنطن تدرك جيّداً أن القطار قد فات، ولا أحادية قطبية.
ختاماً، على ترامب أن يدرك جيدا بأن تجربته مع السعودية تختلف عنها مع بقية دول العالم، وسعيه الدؤوب لتحويل أمريكا إلى مكتب عقاري يسمسر من خلاله ويهدد من يشاء لن يجدي نفعا في هذا الزمن، فالمعادلات الدولية تغيرت وموازين القوى انقلبت ولم يعد باستطاعة أمريكا أن تقود العالم، خاصة في ظل عودة روسيا إلى دورها الدولي والإقليمي ناهيك عن ظهور التنين الصيني وقدراته التي لا تعد ولا تحصى في شتى المجالات، يكفي أن نذكر أن الولايات المتحدة مدينة للصين بـ1.3 تريلون دولار، إذا إلى أين تمضي واشنطن مع رئيسها ترامب؟ّ!