الوقت- شكَّلت المحادثات الألمانية الروسية في سوتشي منذ أيام، بين الرئيس الروسي فلاديمر بوتين والمستشارة الألمانية أنجيلا ميريكل، محور اهتمام المحللين الدوليين. حيث لم تستطع المحادثات الأخيرة، تخفيف حدة الخلاف بين الزعيمين حول عدد كبيرٍ من قضايا السياسة الخارجية، خصوصاً أن العلاقات الروسية الألمانية تمر بفترة من التوتر، لأسباب عديدة. وهو ما سنُحاول إبرازه في هذا التحليل. حيث تُعتبر ألمانيا في مقدمة الدول الأوروبية الأساسية، وذات تأثير على قرارات الإتحاد الأوروبي. في حين يسعى الطرفان دوماً لإيجاد أرضية من التقارب بينهما. فما هي القضايا التي تُشكِّل مصدر قلقٍ لألمانيا؟ وكيف يُقلق الدعم الألماني لأوكرانيا الطرف الروسي؟ وما هي أهم القضايا المشتركة بين الطرفين؟ وكيف يمكن تقييم ذلك؟
القضايا التي تُشكل مصدر قلق لألمانيا
من ناحية ألمانيا، فهي تعتبر أن عدداً من النقاط تُشكل مصدر قلقٍ لها، وذات صلة بالسياسة الروسية. وهو ما يمكن أن نُشير لها في التالي:
أولاً: ضم روسيا لشبه جزيرة القرم. فقد أوضح المتحدث باسم مكتب المستشارة الألمانية "ستيفن سيبرت" أن هناك موضوعان أساسيان يُثقلان العلاقات بين روسيا وألمانيا اليوم، وهما مسألة ضم شبه جزيرة القرم وأثر ذلك في زعزعة الإستقرار في شرق اوكرانيا.
ثانياً: يوجد خلاف داخلي ألماني حول العلاقة مع روسيا. حيث تواجه ميركل معارضة داخلية مُتزايدة من قِبَل الطبقة السياسية الألمانية ونُخبة رجال الأعمال. حيث يتفاقم الإنقسام بين الإتحاد الديمقراطي المسيحي والإتحاد الاجتماعي المسيحي، حول العديد من القضايا التي تتعلق وتتأثر بالعلاقة الألمانية الروسية لا سيما مسألة اللاجئين. وهو ما أدى لتصريح وزير الدولة الألماني السابق لشؤون الدفاع "ويلي ويمر" للتأكيد على أن اتباع سياسة مناهضة لروسيا هو جريمة ضد أوروبا.
الدعم الألماني لأوكرانيا يُقلق روسيا
من ناحية أخرى فإن سياسة ألمانيا تجاه الأزمة الأوكرانية، تُشكَّل مصدر قلقٍ لروسيا. حيث راهنت ألمانيا وبدعمٍ أمريكي، على الإنقلاب في كييف عام 2014، عسى أن يؤدي ذلك لجعل الغرب ملجأً لأوكرانيا. وهو ما تُحاول إتمامه بعض الدول الأوروية اليوم عبر السعي لمنح أوكرانيا عضوية الإتحاد الأوروبي، على حساب التكامل الإقتصادي التاريخي والثقافي الذي تسعى له روسيا ويحقق منفعة متبادلة للطرفين. ولعل أهم ما أغضب موسكو هو استخدام برلين لمعايير مُزدوجة في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية وعدم مراعاتها لشرعية الإستفتاء في شبه جزيرة القرم، عندما صوت 95% من السكان على الإنضمام إلى روسيا الاتحادية.
القضايا والهموم المشتركة بين موسكو وبرلين
عدة مسائل تجمع بين الطرفين سنتحدث عن أهمها فيما يلي:
أولاً: التبادل التجاري، ففي عام 2012، بلغت التجارة الثنائية بين ألمانيا وروسيا مستوى ملحوظ وصل إلى 89.8 مليار دولار. في حين ونتيجة للعقوبات، تقلَّصت الصادرات الألمانية إلى روسيا لقيمة لا تتجاوز 25 مليار دولار. كما أن دراسات الأمم المتحدة في هذا المجال، أكدت الأثر السلبي للتدابير المضادة الأوروبية تجاه روسيا، والتي أدت لخسارة الدول الأوروبية أكثر من 100 مليار دولار. ما دفع رئيس لجنة العلاقات الإقتصادية الألمانية "ولفجانج بوشيل" للتحذير منذ أيام الى أن المواجهة المستمرة بين الدول الأوروبية وروسيا ستكون مكلفة بالنسبة لـ ألمانيا ويجب التنسيق مع روسيا لحل ذلك.
ثانياً: من الأمور المشتركة والتي باتت واضحة وإن كان الطرف الألماني براغماتياً في مقاربتها، هي اليقين الروسي - الألماني بالنفاق الأمريكي. حيث أن إحصاءات البنك الدولي، تُشير الى أن أوروبا والتي خضعت لأمريكا في مسألة فرض العقوبات الإقتصادية على روسيا، فقدت ما يُقارب 20% من حجم تجارتها بينما زادت أمريكا من حجم تجارتها مع روسيا بنسبة 7% على الرغم من العقوبات.
ثالثاً: شكَّلت السياسة الأمريكية الخارجية لا سيما تلك التي يقودها الرئيس الأمريكي الجديد، مصدر قلقٍ عند الطرفين الألماني والروسي. فقد ظهر فُقدان الكيمياء السياسية بحسب المحللين الأوروبيين، بعد أول لقاء بين ميركل وترامب والذي ظهر فيه الرئيس الأمريكي مُحتقِراً لأوروبا. فيما باتت السياسة الأمريكية الحالية محطَّ انتقاد الغرب قبل الشرق فيما يخص بناء المصالح المُشتركة وإدارتها.
مستقبل العلاقات على ضوء ما تقدم
بناءاً لما تقدم، يُمكن قول التالي:
أولاً: يوجد فجوة واضحة في الرؤية السياسية لكل من ألمانيا وروسيا. كما أن السلوك السياسي لا سيما على الصعيد الدولي يحتاج لتقارب أكبر لا يمكن الوصول له قريباً. حيث تُعاني ألمانيا من مُعضلة الخروج من التبعية الأمريكية وهو ما يصعب القيام به بسرعة دون توفُّر ظروف ملائمة وقرار ألماني صادق.
ثانياً: باتت العلاقات الروسية الألمانية أهم تحدي يواجه ميريكل والتي ستخوض إنتخابات صعبة في أيلول المُقبل. خصوصاً أن أمامها العديد من التحديات الداخلية ومنها الآثار الإقتصادية للعقوبات الأوروبية ضد روسيا والتي باتت تؤثر بشكل سلبي على ألمانيا.
ثالثاً: تسعى روسيا من خلال علاقتها بألمانيا نسج خيوط الحرب على أوروبا. حيث يمكن القول أن المانيا وعلى الرغم من توتر العلاقات بينها وبين موسكو، فهي الأقرب الى روسيا من غيرها في الإتحاد الأوروبي. لكن التحدي الأكبر أمام موسكو، هو كيفية تقدير المصالح بينها وبين ألمانيا في ظل سياسة مليئة بالتحول والتغيُّر والتقاطع بين الدول.
إذن تحكم البراغماتية العلاقة بين موسكو وبرلين. فعلى الرغم من التوتر البارد بين الطرفين، تجمعهم العديد من المصالح المشتركة. في حين تبقى تبعية ألمانيا لواشنطن، أحد أهم التحديات التي تُلقي بظلالها على ميريكل، والتي خرجت من لقائها الأخير بالرئيس الأمريكي الجديد مُنزعجة. فيما تُدرك روسيا أنها قادرة على التحكم بقرارها أكثر. لنصل الى نتيجة مفادها أن العلاقة بين الطرفين والتي ما تزال رهن التحليلات، تختبر النهج البراغماتي لدى كلٍ من برلين وموسكو، في ظل صعوبةٍ في التنبؤ بمستقبل السياسة الدولية والتي باتت أكثر تعقيداً أمام مصالح متشابكة ومتناقضة في آن واحدٍ معاً!.