الوقت- تسعى أمريكا لإيجاد مكانٍ لها خارج الشرق الأوسط، بعد أن أُرغمت على تغيير أولوياتها نتيجة سقوط مشاريعها المتعاقبة. وهنا يأتي الحديث عن آسيا والمحيط الهادئ. لكن المشكلة الأمريكية تكمن في التنين الصيني الذي اجتاح باقتصاده العالم وأصبح قطباً آخر، بدَّد لها حلم عالم القطب الواحد. ولذلك تحدثت التقارير مؤخراً عن لقاءات جمعت لجاناً استشارية أمريكية ويابانية، من أجل التعاون المشترك، الى جانب زيارة وزير الدفاع الأمريكي الى اليابان وكوريا. فماذا في مجريات الأحداث؟ وما هي دلالاتها السياسية؟
أولاً: جولة كارتر الأخيرة
أثارت وسائل الإعلام خبر زيارة وزير الدفاع الأمريكي الى اليابان وكوريا الجنوبية مؤخراً، واعتبرتها مرحلة جديدة في التعاون الأمريكي مع هذين البلدين في المجال العسكري. فبعد أن زار كارتر أفغانستان والكويت، توجه الى الشرق الأقصى، حيث تضمن برنامج جولته، إجراء مباحثات مع المسؤولين السياسيين الكبار والقيادة العسكرية لليابان وكوريا الجنوبية، وكذلك لقاءات مع قادة القوات العسكرية الأمريكية المرابطة في هذين البلدين (49 ألف في اليابان و28.5 ألف في كوريا الجنوبية). وكان قد أطلق كارتر عشية هذه الجولة تصريحاً في ولاية اريزونا أشار فيه الى أن منطقة آسيا والمحيط الهادئ "تحدد مستقبل بلادنا". وحسب قوله بحلول عام 2030 "سيكون أكثر من نصف الطبقة الوسطى، المستهلكين الأكثر نشاطا هناك"، وسيعيش في هذه المنطقة بحلول عام 2050 نصف سكان العالم .
وقال كارتر: "إن بلدان آسيا والمحيط الهادئ تملك منذ الآن قدرات عسكرية كبيرة، وإن نفقاتها العسكرية في ارتفاع مستمر. ووفق مصالحنا البعيدة الأمد علينا أخذ هذه المسألة بالاعتبار، لذلك فإن المرحلة الجديدة من تحولنا نحو آسيا، تتضمن توسيع وجودنا بأشكال مختلفة في تلك المنطقة". مضيفاً أن أمريكا سوف تستمر في تخصيص الأموال والوسائل اللازمة لضمان أمن هذه المنطقة، ولتنفيذ ذلك يجب زيادة التخصيصات المالية لابتكار أسلحة فائقة الدقة وطائرات بتكنولوجيا الشبح "ستيلس"، وصواريخ مجنحة جديدة بعيدة المدى، مضادة للغواصات.
هذا ومن جهةٍ ثانية، تمخضت محادثات الوزير كارتر ونظيره الياباني عن إعلان تشكيل لجنة عمل مشتركة لـ "تعزيز التعاون في مجال ضمان الأمن الفضائي والإلكتروني". إضافة الى مواصلة تعزيز التعاون الثنائي في مجال الأمن. وكانت قد أشارت وكالة الأنباء الفرنسية الى أن كارتر وصف أهداف جولته في الشرق الأقصى بأنها لا تهدف الى ردع الصين التي لها مشاكل حدودية مع اليابان وكوريا الجنوبية وبلدان جنوب شرق آسيا. وأكد بشأن علاقة بلاده مع الصين: "نحن لسنا حلفاء، ولكن علينا ألا نكون أعداء. إن العلاقات القوية البناءة بين بلدينا ضرورية لضمان الأمن في العالم". ولكنه حذر من "عسكرة النزاع" حول الجزر، وفي الوقت نفسه أدان "أي اجراءات أحادية الجانب" تؤدي الى فرض السيطرة على جزر سينكاكو الواقعة في شرق بحر الصين.
ثانياً: دلالات الزيارات
إن لهذه الجولة العديد من الدلالات التي يجب الوقوف عندها، ويمكن سردها على النحو التالي:
- تشير الجولة الخارجية للوزير كارتر، الى أولويات سياسة أوباما في ولايته الثانية، وهي "التحول نحو آسيا". فما نعرفه هو أن التحالف والتعاون الأمني بين أمريكا واليابان هو نتاج حقبة الحرب الباردة. وتعتبر النسخة الجديدة لـ "المبادئ التوجيهية للتعاون الدفاعي" بين أمريكا واليابان تعديلا لـ "المبادئ التوجيهية للتعاون الدفاعي" التي تم التوقيع عليها عام 1997. فقبل 18 عاماً، وبعد فترة وجيزة من انتهاء الحرب الباردة، تم وضع المبادئ التوجيهية للحفاظ على الوضع الأمني في آسيا والمحيط الهادئ والوضع في شبه الجزيرة الكورية، لكن الخلافات التجارية أدت الى خلق "أزمة ثقة"، ما أضر بتعديل "المبادئ التوجيهية للتعاون الدفاعي" بين البلدين، وتعزيز التحالف الأمني بين أمريكا واليابان، والذي يمكن أن يمتد الى شبه الجزيرة الكورية ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ.
- إن الهدف الرئيسي لزيارة كارتر الى المنطقة هو وقف تعاظم التأثير الصيني. وإن واشنطن تسعى ومن خلال تعزيز تعاونها مع سيئول وطوكيو، الى تعقيد مستقبل علاقاتهما المتبادلة مع موسكو. كما أن أمريكا تسعى لتحويل التحالف الأمريكي الياباني الى ركيزة مهمة في استراتيجيتها العالمية في النصف الأول من القرن 21، وتحقيق السيطرة على أوراسيا من خلال حلف شمال الأطلسي في أوروبا والتحالف الامريكي الياباني في آسيا والمحيط الهادئ. وهنا تحاول اليابان المشاركة في الشؤون العالمية من خلال التحالف ورفع مكانتها الدولية.
- وبلا شك تؤدي المبادئ التوجيهية الدفاعية الجديدة لتعزيز التحالف الأمني بين أمريكا واليابان الى تفاقم الخوف في دول الجوار في آسيا والمحيط الهادئ، وجعل القضايا الامنية في آسيا والمحيط الهادئ اكثر تعقيدا. ويظهر التطور التاريخي للقضايا الأمنية في آسيا والمحيط الهادئ أن الاستقرار والأمن على المدى الطويل في المنطقة يحتاج إلى الحوار والتشاور والتنسيق، وتضمنها آليات أمنية متعددة الأطراف الممثلة في "منع الصراعات". ولا يمكن الاعتماد على تحالف بين دول لمجرد استمرار نتائج حقبة الحرب الباردة.
إن أمريكا لم تهدف يوماً في سياساتها الى التقريب بين الدول، وهي إن دعمت دولةً ما فذلك لحساباتٍ خاصة، ومصالح مشتركة. فأمريكا التي طالما دخلت في سجالاتٍ سياسية مع دول أمريكا اللاتينية مثلاً، تقوم اليوم بإعادة العلاقات الطيبة مع هذه الدول بسبب سياسة المصالح. وبالتالي فإن سعي امريكا لتقوية علاقتها باليابان وكوريا الجنوبیة، ليس إلا لهدف تقوية نفوذها في مناطق المحيط الهادئ، بعد تراجعها في الشرق الأوسط. كما أنها تسعى لضرب التمدد الصيني وكذلك الروسي في نفس المنطقة. وهذا ما ستثبته الأيام المقبلة.