الوقت- أحداث متسارعة تشهدها جبهة الجولان السوري مع الكيان الصهيوني بعد هدوء نسبي ظل يحكم هذه المنطقة منذ اتفاق فك الاشتباك، الذي وقعه طرفي النزاع السوري والصهيوني برعاية الأمم المتحدة بعد حرب تشرين/أكتوبر 1973. إلا أن هدوء هذه الجبهة لم يعد كسابق عهده في ظل التطورات التي فرضت نفسها على المنطقة، حيث بدأت تظهر معالم لحركة مقاومة شعبية كان قد وعد بتشكيلها ودعمها، كل من الرئيس السوري بشار الأسد والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، ناهيك عن التقدم الذي يحرزه الجيش السوري وحزب الله ضد الجماعات التفكيرية على محاور درعا القنيطرة على مقربة من الجولان السوري المحتل، وسط تخوف اسرائيلي تعكسه تصريحات وسائل اعلامهم من أن يصبح تواجد المقاومة وحزب الله في الجولان أمراً واقعاً.
فقد أطلق الجيش السوري منذ أيام عملية عسكرية واسعة في الجبهة الجنوبية في المثلث بين ريف دمشق ودرعا والقنيطرة تمكن من خلالها من استعادة بلدة دير العدس الاستراتيجية وتأمين بلدة دير ماكر وتلة العروس وتلة السرجة قرب ريف درعا والتي كانت قد سيطرت عليها النصرة والمجموعات التكفيرية الاخرى بتغطية مباشرة من "الكيان الاسرائيلي"، وتهدف هذه العملية إلى كسر الحزام الأمني حول "الكيان الاسرائيلي" والذي كانت تكرسه جبهة النصرة من خلال محاولة التمدد باتجاه مزارع شبعا في الجنوب اللبناني.
وفي سياق متصل أعلنت منذ أيام ما أطلقت على نفسها "حركة المقاومة الوطنية بحوران" في ثلاثة بيانات متتالية أسرها لعدد كبير لمن وصفتهم بـ "عملاء للعدو الصهيوني"، محذرة المسلحين في الشيخ مسكين وابطح في درعا من "التقدم باتجاه قرفا أو الأوتوستراد الدولي او ستكون مقبرة لهم".
هذه التطورات أعلن عنها مؤخراً نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية السوري وليد المعلم في لقاء خاص مع قناة "العالم"، حيث صرح بأن "هناك جهد عسكري يقوم به الجيش العربي السوري وجهد عسكري تقوم به المقاومة الشعبية في التصدي لجبهة النصرة والمخططات الاسرائيلية"، وأضاف بأن هناك مساعي اسرائيلية لتكرار محاولة الحزام الامني في جنوب لبنان في جبهة الجولان، مشيراً إلى نشوء مقاومة شعبية من أهالي الجولان المحتل للتصدي لهذا المخطط.
إذاً فالجولان السوري يقبل على رسم قواعد اشتباك جديدة غير تلك التي كانت موجودة في المراحل السابقة، وجبهة الجولان ستكون التحدي الأبرز للكيان الصهيوني خلال الفترة المقبلة، في ظل قرار حتمي صادر عن محور المقاومة، بفتح هذه الجبهة أمام فصائل المقاومة.
قرار فتح جبهة الجولان
في الحقيقة لم تغب المقاومة الشعبية عن الجولان منذ احتلاله في حزيران من العام 1967، واستمر النضال بأشكال متعددة حتى بعد اتفاقية فك الاشتباك في العام 1973، حيث رفض سكان الجولان المحتل قرار الكنيست الاسرائيلي في العام 1981 بضم الجولان وفرض التجنيس الاجباري، ونفذوا اضراباً استمر لأشهر احتجاجاً على الممارسات الاسرائيلية.
أما على صعيد المقاومة المسلحة فقد قامت مجموعة من الشباب الوطني في العام 1981 بتشكيل حركة المقاومة السرية في الجولان التي نُسب إليها القيام بعدة عمليات أبرزها تفجير معسكر بئر الحديد بالقرب من بقعاثا، وزرع عبوات ناسفة للآليات الاسرائيلية، ومحاولات لتهريب السلاح التي سيطرت عليه للمقاومة الفلسطينية، وقد قامت السلطات الاسرائيلية باعتقال غالبية مؤسسي هذه الحركة ومن بينهم الأسير الشهيد هايل حسين أبو زيد الذي استشهد على اثر مرضه داخل السجن والإهمال الطبي.
وبقي الجولان يقاوم لاحباط مخططات الاحتلال الاسرائيلي الهادفة إلى سلخ الجولان عن سوريا، وتغيير انتمائه العربي.
إلّا أن نقطة التحول الاستراتيجية في تفعيل المقاومة الشعبية في الجولان، وضمّها إلى جبهة المقاومة الموحدة في كل من لبنان وغزة، جاءت بعد العدوان الاسرائيلي التي نفذته طائرات اسرائيلية في أيار/مايو 2013 على مواقع بالقرب من دمشق قيل أنها استهدفت منشأة أبحاث عسكرية، حيث لم يكن هذا العدوان الأول من نوعه بل كانت الطائرات الاسرائيلية قد قامت قبل ذلك بعدة أشهر بتنفيذ قصف جوي على جمرايا قرب دمشق.
ويشير مراقبون إلى أن الاعتداءات الاسرائيلية على دمشق استهدفت دعم الجماعات التكفيرية المسلحة، التي كانت تعاني آنذاك من وضع صعب في جبهة الجنوب في ظل التقدم الذي أحرزه الجيش السوري وقوات الدفاع الوطني.
اختارت سوريا أن ترد على هذا العدوان من خلال فتح جبهة الجولان وتزويد حزب الله بسلاح كاسر للتوازن، ونقلت صحيفة الاخبارعن شخصيات زارت الرئيس الأسد أن الرئيس السوري قال: "إن سوريا كانت قادرة بسهولة على أن ترضي شعبها وتنفس احتقانه واحتقان حلفائها وتشفي غليلها بإطلاق بضعة صواريخ على إسرائيل، رداً على الغارة الإسرائيلية على دمشق.. بذلك نكون قد انتقمنا تكتيكياً، أما نحن فنريد انتقاماً إستراتيجياً"، وهذا الانتقام سيكون "عبر فتح باب المقاومة، وتحويل سورية كلّها إلى بلد مقاوم".
وقد أكد الزوار وفق تقرير الصحيفة اللبنانية أن الأسد لديه خطّة كبيرة وطويلة الأمد لمشروع المقاومة في الجولان على غرار ما حققته المقاومة في جنوب لبنان، بعدما باتت الصورة واضحة للخارج والداخل عن منظومة المقاومة.
وتعقيباً على تصريحات الأسد، أعلن السيّد حسن نصرالله دعم قرار القيادة السورية فتح جبهة الجولان المحتل أمام عمل فصائل المقاومة، قائلاً "كما وقفت سوريا الى جانب الشعب اللبناني ودعمت مقاومته الشعبية مادياً ومعنوياً حتى تمكنت هذه المقاومة من تحرير جنوب لبنان، فإننا في المقاومة اللبنانية نعلن أننا نقف الى جانب المقاومة الشعبية السورية ونقدم دعمنا المادي والمعنوي والتعاون والتنسيق من أجل تحرير الجولان السوري".
القلق الاسرائيلي ودعم الجماعات الارهابية
أخذت القيادة الاسرائيلية تصريحات الأسد ونصرالله على محمل الجد، ويبدو أنها اختارت الرد على خطوة تشكيل مقاومة شعبية في الجولان المحتل، من خلال تسخين جبهة الجنوب في درعا والقنيطرة وتقديم مزيد من الدعم للجماعات التكفيرية المتمثلة بجبهة النصرة. فبالإضافة إلى علاج جرحى جبهة النصرة في المستشفيات الاسرائيلية، قام "الكيان الاسرائيلي" بتقديم دعم لوجستي واستخباري عالي المستوى، كان واضحاً من خلال تحسن أداء جبهة النصرة على جبهة الجنوب وسيطرتها على أجزاء واسعة من الجولان المحرر.
وكمؤشّر على التعاون الوثيق بين الكيان الاسرائيلي والجماعات التكفيرية، لم تعترض "اسرائيل" على قيام جبهة النصرة في سبتمر/ أيلول 2014 باحتجاز عدد من قوات فك الاشتباك التابعة للأمم المتحدة (الأندوف) داخل الخط الفاصل بين الجيش السوري والجيش الاسرائيلي، الأمر الذي أدى إلى انسحاب غالبية هذه القوات من مواقها على الشريط الحدودي، وحلول جبهة النصرة وحليفاتها محلها.
كما حملت حادثة تردد بعض عناصر جبهة النصرة في منطقة مزارع شبعا اللبنانية، في نفس الفترة، رسائل مبطنة إلى حزب الله، تحذره من عواقب الوقوف إلى جانب النظام السوري، في دعم فتح جبهة الجولان.
فالهدف الواضح للكيان الاسرائيلي من هذه الخطوات هو تشكيل حزام أمني من الجماعات التكفيرية يتولى بالنيابة عن الجيش الاسرائيلي مهمة حماية حدود الكيان الاسرائيلي. وهذا بالضبط ما حدث حيث تنتشر الجماعات الارهابية على معظم الخط الفاصل بين الحدود السورية الفلسطينية بعمق 5 كيلومترات، ويقدر عددهم بـ 12 ألف مسلح، ينتمون إلى فصائل متشددة أبرزها جبهة النصرة.
أما الاعتداء الاسرائيلي الأخير على كوادر حزب الله في مدينة القنيطرة السورية، فكان يحمل رسالة واضحة لحزب الله لثنيه عن دعم تشكيل المقاومة الشعبية في الجولان. فالاعتداء الذي ذهب ضحيته 6 من كوادر حزب الله وقائد من الحرس الثوري الايراني، لم يقع على الحدود المباشرة مع الكيان الاسرائيلي، بل وقع على عمق 6 كيلومتر داخل الاراضي السورية، مما يبين مدى الذعر الاسرائيلي من تحركات محور المقاومة في المنطقة.
غير أن رد حزب الله على العملية جاء ليقلب كل الحسابات الاسرائيلية، ويفرض واقعاً جديداً ويكرس قواعد اشتباك من نوع آخر.
رد محور المقاومة وتكريس المعادلة الجديدة
تقول مصادر مطلعة أنه بعد العدوان الاسرائيلي على كوادر حزب الله في القنيطرة، مرّ سليماني بدمشق في طريقه الى بيروت حيث التقى قيادة المقاومة، في دلالة واضحة على التنسيق المشترك بين أركان محور المقاومة وتوحيد جبهات المقاومة. كما أن رسالة "محمد ضيف" قائد كتائب عز الدين القسام إلى السيد نصرالله والتي حملت الكثير من الدلالات على استعداد المقاومة الفلسطينية للمشاركة في الرد على الكيان الاسرائيلي، كانت تأكيداً واضحاً بأن محور المقاومة مصمم على توحيد الجبهات في مواجهة العدو الاسرائيلي.
لم يتأخر الرد من محور المقاومة، حيث قام حزب الله بعملية نوعية في مزارع شبعا اللبنانية دمر فيها عدد من الآليات الاسرائيلية ما أسفر عن مقتل وجرح العشرات من جنود الاحتلال. الأمر الذي أرسى معادلة جديدة في الصراع مع العدو الاسرائيلي، فالضربة الاسرائيلية جاءت في القنيطرة، أما الرد فكان في مزارع شبعا، وقد يكون غداً في غزة.
وقد أعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في حفل تكريم شهداء القنيطرة أن المقاومة لم تعد معنية بقواعد الاشتباك وتفكيك الساحات والميادين. فيما أكد اللواء محمد علي جعفري القائد العام للحرس الثوري الإيراني بأن: "رد الجمهورية الإسلامية هو ذاته رد حزب الله، نحن وحزب الله واحد وأينما أريقت دماء شهدائنا في الجبهات فإن ردنا سيكون واحداً".
من جهتها دعت القوى الوطنية والإسلامية في قطاع غزة إلى تشكيل كتلة مقاومة جامعة تحمل اسم "جبهة المقاومة الموحدة"، تضم الفصائل الفلسطينية وحزب الله، إضافة إلى أطراف سورية.
وتكمن أهمية هذه التصريحات في تثبيت وحدة ساحات المقاومة، مما يكسب جبهة الجولان على حداثة عهدها، سنداً ودعماً من كل محور المقاومة الأمر الذي سيسهم في قوتها وفعاليتها.
استراتيجية محاربة العملاء
عند تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الاسرائيلي في العام 2000 كانت النقطة الفاصلة في استكمال هذا التحرير هو انهيار جيش لحد الجنوبي. والذي كان يشكل خط الدفاع الأول عن الكيان الاسرائيلي ضد عمليات المقاومة اللبنانية، فاعتمد حزب الله في تلك الفترة على توجيه ضربات قاسية للعملاء لدفعهم للتقهقر.
واليوم، يحاول الكيان الصهيوني تكرار نفس الاستراتيجة السابقة بايجاد منطقة عازلة من الجماعات التكفيرية، للوقوف سداً أمام فتح جبهة الجولان ضد الكيان الصهيوني، وتؤكد مصادر أن الكيان الاسرائيلي يدير المعركة ضد الجيش السوري وحزب الله من خلال غرفة عمليات "موك" في الأردن، بالتنسيق مع المخابرات الفرنسية والبريطانية والسعودية والاسرائيلية. حيث يقوم الأردن بمهمة تأمين تدريب المقاتلين والإشراف عليهم، ومن ثم إدخالهم إلى سوريا بسرية مطلقة.
لذلك يضع الجيش السوري وحزب الله الجبهة الجنوبية على سلم اولوياتهم لما لها من ابعاد استراتيجية مهمة، تتمثل بقطع طرق امداد المسلحين والتضييق على التعاون الاستراتيجي بينهم وبين الكيان الاسرائيلي.
وقد أعلن السيد حسن نصرالله بشكل واضح في خطابه بعد عملية المقاومة في شبعا، بأن المقاومة ترى اسرائيل والنصرة جبهة قتال واحدة، كما أشار إلى حق محور المقاومة بالرد، كيفما وأينما يشاء.
ويشير مراقبون أن التفجير الارهابي الذي تبنته جبهة النصرة في منطقة الكلاسة بدمشق والذي استهدف حافلة لبنانية تقل زواراً لمقام السيدة زينب في دمشق، كان الرد الاسرائيلي على عملية المقاومة في مزارع شبعا، ورسالة واضحة المضمون بأن الكيان الصهيوني قادر على استهداف القاعدة الشعبية للمقاومة من خلال جبهة النصرة وأعوانها.
فالحرب ضد الجماعات الارهابية أضحت جزء لا يتجزأ من معركة موازين القوى التي يخوضها محور المقاومة مع الكيان الاسرائيلي، ولذلك جاءت العمليات الاستباقية للجيش السوري وحزب الله على جبهة الجنوب، وهو ما يضع الكيان الاسرائيلي أمام مأزق التدخل المباشر أو قبول خسارة مراهناتها على الجماعات التكفيرية المسلحة.
الخاتمة
إن القرار الاستراتيجي الذي اتخذه محور المقاومة بفتح جبهة الجولان، والذي يعتمد على تكتيك مزدوج يجمع بين وحدات عسكرية كلاسيكية ومقاومة شعبية، سيكون التحدي الأكبر للكيان الصهيوني في الأشهر المقبلة، ويبدو أن أيام هدوء هذه الجبهة قد ولت إلى غير رجعة، وأن جبهة النصرة والجماعات التكفيرية هي الرهان الوحيد المتبقي لهذا الكيان الغاصب على المدى المنظور.