الوقت- "لو كان عبد الناصر على قيد الحياة لانسحبت جنوب إفريقيا من أمام مصر، لكنها لم تعد مصر جمال عبد الناصر"، هكذا وصف زعيم جنوب إفريقيا الراحل نيلسون مانديلا الواقع المصري عندما تحدث عن إستضافة بلاده لمونديال عام 2014.
إن الإنسلاخ الاستراتيجي لمصر من دورها الإفريقي بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر يقف خلف كلام الراحل مانيدلا. القارّة السمراء التي لا توجد فيها عاصمة واحدة ليس فيها شارع من أكبر الشوارع وأطولها يحمل اسم جمال عبدالناصر، وكذلك أفريقيا التي سحبت اعترافها بـ"إسرائيل" وقامت بطرد سفرائها من هناك في أعقاب النكسة وهزيمة مصر، وكذلك، ، باتت اليوم مرتعاً للكيان الإسرائيلي في ظل إنحسار الدور المصري الذي بدأ في عهد الرئيس السادات.
لم يكن حضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى القارة الأفريقية، وتحديداً دول حوض النيل، من قبيل المصادفة، بل تأتي الزيارة في صلب الإستراتيجية الإسرائيلية لأسباب سياسيّة وأمنية، وأخرى إقتصادية ودبلوماسيّة.
نتنياهو الذي بدأ جولته الإفريقية إلى أوغندا وإثيوبيا وكينيا ورواند، يسعى للدخول إلى القارة السمراء من الباب الواسع الذي أغلقه بوجهه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وبالفعل نجح في الحصول على عضوية الاتحاد الأفريقي بصفة مراقب.
رغم أن زيارة نتنياهو تعد الاولى لرئيس حكومة صهيونية منذ 22 عامًا للأفريقيا، إلا أن الأطماع الإسرائيلية في القارة الأفريقية ليست بالأمر المستحدث، كما أن العلاقات الإسرائيلية – الأفريقية لم تكن في يوم وليدة اللحظة بل تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، وفق ما كتبت صحيفة "معاريف" العبريّة، مستذكرةً زيارة جولدا مائير وزيرة الخارجية الإسرائيلية علم 1958 لخمس دول من دول القارة السمراء لترسيخ العلاقات "الافرو-إسرائيلية"، وزيارة وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان في العام 2014.
لطالما كان الحضور المصري سبّاقاً في قارته السمراء، فرغم أن إسرائيل أفلحت في مطلع الستينيات في إنشاء شبكةِ علاقاتٍ إفريقية مميزة في بداية عهد تحررها من الاستعمار، إلا أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عزل إسرائيل عن أفريقيا، وتحديداً في مؤتمر القمة الإفريقية في الدار البيضاء عام1961 عندما نجح في حل مشكلة البيان الختامي، والحصول على "تأييد الدول الأفريقية المحررة للعرب في موقفهم من إسرائيل"، بعدما استفاض الرئيس عبد الناصر في شرح دور الاستعمار في إقامة دولة "إسرائيل" واغتصاب أرض فلسطين وتشريد أهلها، الأمر الذي جذب عقول "الأفارقة" للرئيس عبد الناصر.
لم يكن الحضور الناصري في القارة السمراء أمراً شكلياً، بل يؤكد كلام جون فوستر دالاس، وزير الخارجية الأمريكي للرئيس إيزنهاور هذه الحقيقة عندما يقول: "لن تستطيع أمريكا تحقيق أهدافها في إفريقيا إلَّا باغتيال عبد الناصر أو إقصائه". هناك العديد من الدول الإفريقية التي أقامت له التماثيل في أكبر ميادينها اعترافا بفضل الرجل وفضل مصر في استقلالها وتحرير شعوبها وقد كان آخر تلك التماثيل وأضخمها في مدينة جوهانسبرج بجنوب إفريقيا، والذي أزاح عنه الستار نيلسون مانديلا بنفسه في حضور أبناء الزعيم المصري الذين دعاهم الزعيم الإفريقي العظيم لحضور هذه المناسبة.
بعيداً عن الأهداف السياسيّة والإقتصادية لزيارة نتنياهو الذي اصطحب معه ٨٠ رجل اعمال يمثلون ٥٠ شركة إسرائيلية، تحمل زيارة نتنياهو تحت عنوان "إسرائيل تعود إلى إفريقيا، وإفريقيا تعود إلى إسرائيل"، كما وصفها نتنياهو في شقّها المصري، جملة من الرسائل والدلالات، يمكن تلخيصها بالتالي:
أولاً: لا شك في أن الغياب المصري عن الساحة الإفريقية، سمح للكيان الإسرائيلي بالتوغّل في القارة التي نجح في كسبها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ولازالت بركات هذا الجذب تسطع في الأروقة الدولية حتى الأمس القريب دعماً للقضية الفلسطينية، وهذه النقطة تحديداً أحد أبرز أهداف نتنياهو من الزيارة.
ثانياً: إن التقوقع المصري في الداخل لأسباب إقتصادية وأخرى سياسيّة عنوانها سعي بعض الدول العربية للإمساك بقرار القاهرة، سمحت لنتنياهو بالتجرّؤ على الدخول إلى أفريقيا من أبوابها الواسعة، ولا نستغرب أن نشاهد نتنياهو في بعض الدول العربية التي تربطها علاقات علنية وسريّة مع الكيان الإسرائيلي. ربّما تكون سوريا، التي عشقت عبد الناصر وعشقها، هي إحدى المحطات المقبلة لنتنياهو أو من سيخلفه في حال سقطت الدولة السورية.
ثالثاً: إن الجالية اليهودية الكبيرة في إثيوبيا متمثلة في "يهود الفلاشا"، من أهم أسباب تعزيز العلاقات بين الكيان الإسرائيلي وأثيوبيا، حيث تسعى الأولى لكسب الأخيرة في كافّة مواقفها بإعتبارها دولة المنبع الرئيس لنهر النيل الواصل إلى مصر. نتنياهو يسعى من خلال الجالية اليهودية والعلاقات الحميمة مع اثيوبيا الضغط على صانع القرار المصري، نظراً لحساسية وخطورة "ورقة المياه" في الاستراتيجية المصرية.
رابعاً: الزيارة الإسرائيلية تأتي قبيل تشغيل المرحلة الأولى من سد النهضة بـ 3 أشهر تقريبًا، وإلى الدول التي وقّعت فيما بينها على اتفاق "عنتيبي" لإعادة توزيع حصص مياه نهر النيل بين دول الحوض، بما يمثل ضغطًا على مصر، التي تعاني من نقص حصتها المائية، فهل هناك أطماع إسرائيلية جديدة في مياه النيل؟ تجيب صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية على هذا السؤال بالقول: "إن "إسرائيل" منذ تأسيسها تحاول الحصول على مياه النيل، وسبق أن طرحت عام 1974 فكرة إعادة مدينة القدس المحتلة إلى الفلسطينيين، مقابل نقل 840 مليون م3 من مياه نهر النيل سنويًا إليها، وهذه الكمية كافية لتغطية احتياجاتها من المياه، غير أن المشروع اصطدم بمعارضة إثيوبيا والسودان في حينها.
لن ينهي نتنياهو يوم غد الجمعة زيارته التايخية إلى أفريقيا فحسب، بل سينهي معها حقبة ذهبية سطّرها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. هذا ما أوضحه نتنياهو خلال زيارته عندما قال:"لهذه الجولة أهمية كبيرة جداً، أيضاً من ناحية سياسية، اقتصادية وأمنية. أنا مسرور لأن إسرائيل ترجع لأفريقيا بشكل كبير. إننا نفتح أفريقيا أمام إسرائيل من جديد".
رغم نجاح نتنياهو في هذه الجولة عبر بسط سيطرته على الدول المركزية في القارة الإفريقية، إلا أنه من غير الدقيق تعميم نتائجها على القارة الإفريقية، فدول حوض النيل تربطها علاقات غير مستقرّة مع مصر، إلا أن هناك العديد من الدول الإفريقية تربطها علاقات مميزة مع القاهرة، ولكن إستمرار الوضع القائم فيما يخص التقوقع المصري وانسلاخ القاهرة من عمقها الاستراتيجي، يعني السير بمشروع نتنياهو الإفريقي والقضاء على إنتصارات الرئيس عبد الناصر الإفريقية.
اليوم وبعد عشرات السنين على رحيل الزعيم العربي والإفريقي جمال عبد الناصر، وإنكماش الدور الإقليمي والقاري لمصر، أصبحنا أمام واقع يستطيع فيه الكيان الإسرائيلي أن يلعب في الساحات الخلفية، والتي لطالما كانت في صف القضية الفلسطينية، ولكن ما كانت الحسناء الإفريقية ترفع سترها لو أن في أرض المحروسة رجال.