الوقت - تنتهج الدول التي تطلق عليها واشنطن تسمية دول الاعتدال سياسةً لا تتوافق مع التسمية الأمريكية التي أصبحت بعيدة عن الواقع، فالسعودية انتقلت من رأس هرم "الاعتدال" إلى رأس حربة المواجهة التي فتحتها الرياض على كافة المستويات والصعد دون استثناء، وحتى لا يكون كلامنا خاليًا من الشواهد والأدلة فلا بأس بتسليط الضوء على ملف الحج العالق بين الرياض وطهران والذي عُقدت حوله جلسات نقاش عديدة بين الجانبين.
المشكلة بدأت رسميًا بعد أن قامت السعودية بإغلاق سفارتها في العاصمة الإيرانية إثر هجوم متظاهرين إيرانيين على السفارة وذلك بعد أن قامت السعودية بإعدام عالم الدين نمر النمر، ورغم أن المشكلة بدأت بشكل صريح في هذه النقطة إلا أن لها جذوراً تعود إلى العام الفائت، حيث أودت فاجعة منى التي وقعت في موسم الحج الماضي بحياة قرابة الـ500 حاج إيراني كان بينهم دبلوماسيون كبار، كما أن العام الفائت شهد تحرش شرطيين سعوديين بشابين إيرانيين كانا قد قصدا السعودية بهدف العمرة.
رغم أن السعودية بعد إغلاقها لسفارتها في طهران أكدت على لسان وزير خارجيتها أن ذلك لن يؤثر على استقبال الحجاج الإيرانيين مبرزةً ترحيبها بهم، إلا أن التحرك السعودي على الأرض كان مخالفًا للتصريحات المسالمة، فالسعودية رفضت في البداية منح تأشيرات للحجاج الإيرانيين من خلال السفارة السويسرية التي ترعى المصالح السعودية في إيران أو من أي سفارة عربية في طهران، وأصرت على أن يكون المنح من دولة ثالثة، وهذا عرقلة واضحة لقدوم الحجاج الإيرانيين، ولم يتوقف الأمر على هذا فالرياض أيضًا عرقلت تقديم تأشيرات للوفد الإيراني المفاوض بشأن ملف الحجاج.
في كل الاجتماعات التي حصلت بين الجانبين لحل المسألة العالقة كانت الرياض تلقي اللوم على طهران في عرقلة المفاوضات وتتهمها بوضع شروط غير مقبولة، واستطاعت الرياض من خلال وسائل إعلامها قلب الوقائع، فالحقيقة أن السعودية هي من تعرقل المفاوضات وتضع العراقيل في طرق التفاهم، فكل ما يطلبه الإيرانيون هو توفير ظروف مناسبة للحجاج تضمن سلامتهم وتكون كفيلة بمنع تكرار فاجعة العام الماضي، ومن البديهي أن هذا من حق طهران وكافة الدول الأخرى، كما أنه من واجب السلطات السعودية توفير الأمن للحجاج والتعامل معهم باحترام دون أي إهانات أو تمييز.
لا يمكن أن تكون اتهامات العرقلة التي توجهها السعودية لإيران صحيحة لأسباب عديدة على رأسهم سببان، الأول هو أن إيران هي التي ترغب بالحصول على موافقة الحج لمواطنيها، والسعودية هي المعطي للموافقة، فلا يمكن لإيران أن تعرقل شيئًا هي ترغب فيه، ولو كانت لا ترغب فيه لأعلنت منذ البداية أن الظروف غير مناسبة ليحج مواطنوها هذا العام، فلا معنى للعرقلة من الجانب الإيراني؛ في المقابل السعودية هي التي تملك صلاحية استقبال الحجاج الإيرانيين أو عدم استقبالهم، وبسبب الرأي العام الإسلامي لا تستطيع السعودية الجهر بعدم رغبتها باستقبال الإيرانيين، وهذا ما يفسر لجوء الرياض إلى طريق العرقلة والرفض غير المباشر وتضارب تصريحاتها مع أعمالها على أرض الواقع.
السبب الثاني والأهم هو أن السعودية هي المسؤولة عن أصل المشكلة والذي يتمثل بإغلاق السفارة، فالحكومة الإيرانية أدانت هجوم بعض الشباب على السفارة السعودية، كما قامت باعتقالهم ومحاكمتهم، وهذا يعني أن ما حصل للسفارة السعودية لا يحمل طابعًا سياسيًا وحكوميًا، كما أن قيام الحكومة الإيرانية باعتقال ومحاكمة الفاعلين يجرد السعودية من حق إغلاق سفارتها وتوتير الأوضاع.
أما عن أهداف السعودية من عرقلة قدوم الحجاج الإيرانيين فيمكن القول إن الرياض تحاول ضرب إيران على كافة الصعد والملفات، ولذلك فهي تحاول أن تصور إيران على أنها تقوم بتسييس الحج وأن الحكومة الإيرانية تفرض الشروط لأداء فريضة الحج، وكل ما في الأمر أن إيران تطالب بما هو حقها وحق حجاجها وواجب السعودية تجاه جميع الحجاج، كما أن الرياض تبذل جهدها للانتقام من طهران على كافة الصعد والإمكانات، وذلك لأن إيران تخالف السياسة السعودية تجاه متغيرات المنطقة، إضافةً إلى أن طهران تقف في وجه المشروع الأمريكي الذي يلاقي دعمًا من دول "الاعتدال" وعلى رأسهم السعودية، ناهيك عن الدور الإيراني الفعال في محاربة الإرهاب والذي وضع السعودية في موقف حرج لتسببه بازدياد شعبية الدولة الإيرانية على حساب سمعة الرياض التي بدأتت تتلقى اتهامات دعم الإرهاب والجماعات التكفيرية، ناهيك عن انكسار السياسات السعودية في دول عربية عديدة كالعراق وسوريا واليمن، وهذا ما دفع السعودية للانتقام من طهران التي تراها الرياض وراء الخسائر التي منيت بها.
توجه السعودية إلى الحج واستغلاله للضغط على إيران وإحراجها يشكل ظاهرة خطيرة، فالحج يجب أن يكون بعيدًا عن الملفات والخلافات السياسية وذلك ليحافظ على رمزيته وقدسيته لدى المسلمين، وليبقى كما أراده الإسلام عاملا من عوامل وحدة الشعوب الإسلامية، كما أن توجه السعودية إلى تسييس الحج يظهر مدى عدم انطباق تسمية "دول الاعتدال" على السعودية التي لجأت إلى التسييس المفرط لكافة مظاهر الحياة حتى أن الحج لم يسلم من التسييس، وصارت السعودية أشبه برأس حربة تطعن كل من لا يروق لها حتى لو كانوا حجاج بيت الله الحرام.