الوقت - كانت تدمر تعرف طيلة قرون مديدة بـ "عروس الصحراء" لجمالها وإزدهارها، لكنها لم تُعد كذلك بعد أن دمّرها الإرهابيون خلال إحتلالهم لها في 20 أيار/مايو 2015 وما بعده، قبل أن تتمكن القوات السورية وحلفاؤها من تحريرها في 27 آذار/مارس الماضي.
فهذه المدينة التي كانت تسمى أيضاً بإسم الملكة "زنّوبيا" ويسمّيها الغربيون كذلك بإسم "بالميرا" لوفرة آثارها، تُشم الآن منها رائحة الدم والبارود والنيران ولا تكاد تُشاهد فيها بناية واحدة أو شارع واحد غير مدمر، فالطرقات قد ملئت بالشظايا وأغلفة القذائف وأنقاض المنازل المدمرة.
ولا زال صدى صراخ الأطفال المرعوبين من أصوات المدافع والرصاص يُسمع من خرائب هذه المدينة التي لم تسلم حتى أحجارها وأعمدتها التي يقدر عمرها بآلاف السنين من عبث الإرهابيين عديمي الثقافة والإنسانية. أولئك الأطفال الذين تركوا معاصم أمهاتهم في تلك اللحظات الرهيبة ليحملوا حقائبهم وكُتبهم ظنّاً منهم أنهم سيعودون إلى مدارسهم مرة أخرى، دون أن يعلموا أنّ أجسامهم الغضّة وأحلامهم البريئة ستمزقها القذائف والرصاص وستتبعثر كتبهم وأقلامهم في أزقة بلدتهم على يد الإرهابيين.
ولا زال الصمت والحزن يخيّم على تدمر، إلى جانب صدى صرخات الأمهات التي كنّ يطلقنها في تلك اللحظات العصيبة وهنّ يحملن فلذات أكبادهن وبينهم الرضّع كي ينجوا من القصف والذبح على يد الإرهابيين.
امّا قلعة تدمر فقد بقيت صامدة وشامخة بعد أن كانت ترقب من فوق التل الذي شُيّدت عليه جميع الفجائع والجرائم الوحشية التي ارتكبها الإرهابيون بحق أبناء المدينة، لتكون شاهدة حيّة على هذه الجرائم.
الوسائل المنزلية المكسّرة والمتناثرة في شوارع تدمر تثير هي الأخرى الحزن والأسى. وقد ذكر لنا الدليل الذي رافقنا في هذه الرحلة أن تلك الوسائل كانت لعوائل قررت مغادرة المدينة هرباً من القتل، لكنها أصبحت طعمة لقذائف وقنابل الإرهابيين التي كانت تتساقط وتتفجر على جوانب الطرق.
ولازال الكثير من إطارات السيارات المستهلكة والتي تم تفخيخها من قبل "داعش" متناثرة على الطرقات، كما تُشاهد القنابل وقذائف الهاون والألغام غير المتفجرة التي زرعها عناصر هذا التنظيم في مختلف أرجاء المدينة.
وما زالت جثث الإرهابيين المحترقة منتشرة في مداخل وأزقة تدمر، وبينها الكثير من الجثث التي لم يبق منها سوى هياكلها بعد أن تم حرقها من قبل نفس الإرهابيين لإخفاء معالمها كي لايتم التعرف عليها. وتُشاهد أيضاً في المدينة وبكثرة العجلات والآليات المحطّمة التي إستخدمها الإرهابيون في تنفيذ هجمات إنتحارية ضد مواقع الجيش السوري.
امّا متحف تدمر فكان هو الآخر معطّلاً ومغلقاً بعد أن سُرقت محتوياته أو تم تدميرها وتفخيخها، ولكن المدينة نفسها قد تحوّلت إلى متحف يروي للتاريخ الجرائم البشعة التي إرتكبها "داعش" ضد الشعب السوري.
وتحدث العمید "مالك علي حبیب" رئیس فرع المخابرات العسکریة في البادیة السورية عن بدایة هجوم الإرهابيين على تدمر، فقال:
"بدأ العدوان على تدمر من قبل عناصر "داعش" في 12/5/2015 بعد أن کانوا متواجدين في منطقة "توینان" التي تبعد 65 کیلومتراً عن منطقة السخنة، وبعدها إقتربوا إلى قریة الطیبة الواقعة على بعد 22 کیلومتراً شمال السخنة، متسترين بالمناطق الجبلیة والصحراویة، مستفيدين من العواصف الرملیة التي كانت تحجب الرؤية على بعد أمتار قلیلة".
وأضاف حبیب: "شکّل "داعش" تجمعات للهجوم على تدمر بقيادة المدعو "حسان عبود" أو ما یعرف بوالي حمص الذي طلب المؤازرة من مدينة الرقّة -معقل "داعش" في سوریا- فقدمت له 600 مسلح قادمين من مختلف دول العالم، معظمهم من الشیشان والسعودیة وترکیا وتونس والکویت بالإضافة إلى عدد من السوریين الذين إنضموا إلى "داعش".
وتابع هذا القائد العسكري: لقد صمدت القوات السوریة التي كانت متواجدة في تدمر مدة 8 أیام، أي حتى تاریخ 20/5/2015، ولكن عناصر "داعش" تمكنوا من التقدم باتجاه البساتین المجاورة للمنطقة الأثریة التي بقیت بيد القوات السوریة حتى آخر لحظة، لافتاً إلى أنه کان لدى "داعش" قنّاصون محترفون ومسلحون مدربون على کافة أنواع الأسلحة، مشيراً إلى إستشهاد أكثر من 250 عسكري من الجيش السوري في هذه المواجهات".
وحول هدف "داعش" من دخول تدمر، قال العمید حبیب: "کان الهدف الوصول إلى القلمون، بدءاً من "القریتین" مروراً بـ "حسیا" ومنها إلى "جبال القلمون"، لافتاً إلى أن المخطط الأبعد كان الإتصال عبر الحدود اللبنانیة السوریة إلى طرابلس فالبحر المتوسط، إضافة إلى تشدید الخناق والطوق على دمشق وریفها وفصل الأراضي السوریة ما بین المنطقة الوسطى والجنوبیة، والسیطرة على الثروات الإقتصادیة الکبیرة في تدمر ومحیطها ومن بينها المدینة الأثریة، والنفط والغاز والفوسفات والحجر التدمري المشهور عالمیاً والمیاه المعدنية الساخنة، إضافة إلى القمح والشعیر الذي تنتجه بوفرة أراضي البادیة".
وعن العملیة الأخیرة لتحریر تدمر أوضح حبیب: "بتاریخ 1/11/2015 بدأت هذه العملیة، وکان التقدم بطیئاً عند شروعها بسبب المقاومة العنیفة من قبل المسلحین الذین إستخدموا العجلات المفخخة على نطاق واسع، مشيراً إلى أن دعم القوات الحليفة والإسناد الجوي الروسي، کان له أثر کبیر في السیطرة على نقاط إستراتیجیة في جبال الهیال والطّار والقصور التي تشرف على تدمر."
وأوضح أن تحرير تدمر بالكامل تم في إطار خطة محكمة ودقيقة نفّذها الجيش السوري، مشيراً إلى أن مساحة الأراضي التي تم إستعادتها في هذه العمليات تبلغ أكثر من 105 كيلومتر مربع، بينها المناطق المحصورة بين سلسلة مرتفعات "الهايل" في غرب تدمر والبادية من جهة، والمدينة التاريخية في الجهة الجنوبية الشرقية من محافظة حمص من جهة أخرى، واصفاً هذه المعرکة بأنها كانت من أشرس المعارك التي شهدتها الحروب القدیمة والحدیثة.
وتجدر الإشارة إلى أن تدمر التي تقع على بعد 215 كيلومتر شمال شرق العاصمة دمشق تعتبر من المدن القديمة جداً والتي يرجع تاريخها إلى آلاف السنين وهي عاصمة "مملكة تدمر" التي كانت تنافس الإمبراطورية الرومانية القديمة، وكان يقصدها آلاف السيّاح سنوياً من مختلف أنحاء العالم قبل إندلاع الأزمة السورية عام 2011. كما كانت محطّاً لإستقطاب الكثير من رجال الأعمال والحرفيين من حلب ودمشق والبوكمال وحمص وغيرها من المدن السورية قبل إحتلالها من قبل إرهابيي "داعش" في 20 أيار/مايو 2015.