الوقت- جاءت التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية السوري وليد المعلم لتعيد تحديد الخطوط العريضة التي ستسير عليها مفاوضات جنيف، وبدد الخطاب الذي ألقاه المعلم السبت الفائت جميع الأصوات التي بدأت تتلاعب بالأحداث محاولة حرف المسار لمصلحة واشنطن والجماعات الإرهابية، وكان المحور الرئيسي الذي شدد عليه المعلم في مؤتمره الصحفي هو أن حق تقرير المصير هو ملك للشعب السوري وحده.
لم يمضِ إلا قرابة اليوم على تصريحات المعلم حتى ظهر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ليعتبر أن "الرئيس الأسد أرسل وزير خارجيته كي يتصرف كمخرب ويسحب من على طاولة المفاوضات ما وافق عليه الرئيس بوتين والإيرانيون"، في إشارة إلى أن موسكو وطهران قد وافقتا على ما لم توافق عليه دمشق وهو فترة انتقالية لا يكون للرئيس الأسد أي دور فيها.
كلام كيري هذا يدخل في إطار الحملة الإعلامية التي شهدناها في الفترة الأخيرة والتي حاولت إظهار خلاف بين طهران وموسكو من جهة ودمشق من جهة أخرى، وقد انتشرت في الآونة الأخيرة أنباء أن موسكو تسعى إلى تحويل سورية إلى جمهورية فيدرالية، كما بدأ البعض يتحدث عن تفاهم أمريكي روسي بعيدًا عن رغبة دمشق ودون علمها، وخصوصًا بعد حديث المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا عن انتخابات رئاسية في سورية بعد 18 شهر، وضمن سياق الحملة الإعلامية هذه جاءت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي في المؤتمر الصحفي الذي عقده في باريس بعد اجتماع مع نظرائه الأوروبيين.
كل المؤشرات على انشقاق الصف بين موسكو وطهران ودمشق هو حديث إعلامي بحت يهدف إلى إقلاق الحكومة السورية وبالتالي تخفيض سطح مطالبها في مؤتمر جنيف، أي بدأ الغرب يعمل على إضعاف دمشق سياسيًا بعد أن عجز عن ذلك عسكريًا، ولتحقيق هذا لجأت واشنطن وحلفاؤها إلى بث تصريحات وإشارات عن توافق ثلاثي (أمريكي روسي إيراني) حول الملف السوري بشكل مغاير لرغبات الدولة السورية ومصالحها.
الخطة الغربية هذه فشلت ونعاها وزير الخارجية السوري عندما أكد أنه لا دولة فيدرالية في سورية وأنه لا يحق لدي ميستورا تعيين انتخابات لسورية وسط تأكيده على أن الرئيس السوري خط أحمر، وكانت تصريحات المعلم هذه بمثابة إشارة فهمت واشنطن من خلالها أن مخططاتها فشلت، ولهذا أبرز وزير الخارجية الأمريكي جون كيري غضب واشنطن بسبب تصريحات المعلم التي اعتبرها كيري "معرقلة" للمحادثات، ورأى فيها وزير الخارجية الفرنسي "استفزازا".
الحقيقة أنه لم يحدث أي تغيير للمواقف في موسكو وطهران، ولا زال الروس والإيرانيون يؤكدون على أن الشعب السوري هو المخول الوحيد لتقرير مصير سورية، وأي قرار حول شكل الحكم وطبيعة الدولة وشخص الرئيس هي حق حصري للشعب السوري، وهذا ما أكده منذ مدة وزير الخارجية الإيراني، وعن الشائعات التي انطلقت حول روسيا بأنها تعمل على فدرلة سورية فقد اعتبر وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن اقتراحات فدرلة سورية مزايدات والشعب السوري وحده من يختار شكل الدولة.
واشنطن متيقنة من أن موسكو وطهران تؤمنان بأن القرار ملك الشعب السوري بأكمله، وأن موسكو وطهران ستوافقان على أي شيء تقبل به دمشق، ولهذا لجأت الإدارة الأمريكية إلى محاولة تجريد دمشق من الداعمين لها، على الأقل من خلال الشائعات، وكانت تأمل واشنطن بأن تكون هذه الشائعات قادرة على جعل الحكومة السورية تتنازل عن الكثير من المطالب لصالح وفود المعارضة وبالتالي لمصالح واشنطن ومن يقف في خندقها من دول عربية وأجنبية.
كل ما ظهر على وسائل الإعلام في الفترة الماضية هو حصيلة مخططات أمريكية لتحقيق مشاريعها وترويجها بصورة دولية وقانونية، ولهذا طرح دي مستورا انتخابات رئاسية بعد 18 شهر، وهو بصفته مبعوثًا أمميًا لسورية لا يحق له الحديث عن الانتخابات، وهذا تدخل مباشر في الشؤون السورية الداخلية التي هي حق للسوريين وحدهم، كما أن الحديث عن دولة فيدرالية ليس إلا مشروعًا أمريكيًا يهدف إلى الإبقاء على سورية دولة ضعيفة غير موحدة القوى تضم دويلات متناحرة مقسمة على أساس طائفي وقومي.
من المؤكد أن المخططات الأمريكية هذه ستفشل أيضًا فما عجزت واشنطن عن فعله عسكريًا لن تنجح في الحصول عليه سياسيًا وإعلاميًا، وخاصة أن موسكو وطهران ودمشق ثلاثي تجمعه علاقات متينة وقديمة لن تتمكن واشنطن من زعزعتها أو الإخلال بها، كما أن دمشق واثقة من أن طهران وموسكو يقفون إلى جانبها حتى آخر لحظة، ولهذا على واشنطن أن تدرك أن كل ما تستطيع فعله بعد الآن هو نعي مشاريعها في المنطقة والاعتراف بفشلها.