الوقت - كلما اشتعلت النار في الشرق الأوسط، ارتفعت حرارة الحلم الكردي بالاستقلال، والذي يعتبر دأبهم منذ عقود طويلة. هم يقاتلون بالسلاح تارة وبالسياسة دائماً وبالكرامة والعنفوان أبداً. يعيشون في الجبال والأماكن الوعرة، يتحملون القيد والصقيع بغية تحقيق الحلم، لكن الصفقات الدولية سرعان ما تسقط عليهم كالجليد وتخطف منهم أمل اقامة الدولة، كما أنهم يثيرون القلق عند العرب وغيرهم من شعوب المنطقة بسبب نزعة الاستقلال. الكرد اليوم يستعيدون كل أساليب القتال في تركيا، يقاتلون الارهاب في سوريا، يجددون الحلم بعد أن نجحوا بالاستقلال الفعلي في كردستان العراق والمسمى رسمياً بالحكم الذاتي، ودخلوا في صراع سياسي مع الحكومة المركزية في بغداد. لعلهم يعتبرون اليوم أن اشتعال النار على الحدود السورية التركية يسمح لهم بترسيخ دورهم وتعزيز سلطتهم، فاذا بهم يجدون أنفسهم عالقين بين نار التركية ونار الارهاب، وحائرين بين أن يقتربوا من الحكم الحالي في دمشق أو أن يستقلّوا تماماً في قرارهم وسط دعم أمريكي وتأييد روسي وتعاطف غربي.
واضح أن أنقرة هي أكبر الخاسرين من أي ربح قد يحققه أكراد سوريا. فبالرغم من حسن علاقتها مع كرد العراق، واضح أن الدعم الأمريكي للكرد يثير قلقاً حول النوايا الأطلسية الفعلية لمستقبل سوريا، فماذا لو كان خلف الدعم اقامة دولة كردية تمد خطوطاً مثلا مع اسرائيل، كما حصل مع كردستان العراق التي صدرت نفطها عبر أنقرة الى تل أبيب. الصورة في الواقع غامضة لا يضيؤها الا نيران القصف التركي العنيف للمناطق الكردية قبل الاتفاق الأمريكي الروسي على وقف اطلاق النار، تقف تركيا بغية وقف الزحف الكردي نحو استكمال السيطرة على الحدود. بين قتامة الصورة السياسية ونيران المدافع التركية وظلام غرف الخرائط التقسيم الدولية، الى أين سيصل الاشتباك التركي الكردي؟ وماذا يريد الكرد في سوريا؟
لماذا الحملة التركية على الأكراد في سوريا؟
كرد سوريا، كما يحبون أن يسمون أنفسهم، هم تحت قيادة صالح مسلم رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، ويعتقد الأتراك أن لهذا الحزب علاقة عضوية مع حزب العمال الكردي بي كا كا أكراد تركيا، بل يؤكدون أن حزب العمال الكردي الـ بي كا كا له فرعان في الشرق الأوسط واحد في ايران تحت اسم حزب "بيجاك"، وآخر في سوريا والذي هو حزب الاتحاد الديمقراطي. هذا الارتباط ينفيه أكراد سوريا ويؤكدون أن هناك علاقة ايديولوجية فقط، الا أن الأتراك يؤكدون هذا الارتباط، حيث يستشهدون على كلامهم بأنه عندما بدأت الحرب في سوريا وقامت القوات السورية بسحب قواتها من المناطق الكردية وتركتها تحت حماية حزب الاتحاد الديمقراطي، قام الحزب الديمقراطي بتفعيل ارتباطه مع حزب العمال الكردي الذي يشن حرباً على تركيا.
أيضاً الأسباب التي أدت الى التموضع الجديد للقوات التركية على الحدود السورية الشمالية واعلان حربهم على الكرد في سوريا هي ما يلي:
1- جبهة أعزاز وجرابلس، حيث تحولت هاتان المدينتان إلى نقطة تجمع، وشريان حياة للارهابيين والجماعات المسلحة في سوريا، فمنها يدخل الدعم من شتى بقاع العالم، وقبل أسبوعين تغير كل شيء، وذلك عندما حاولت قوات حماية الشعب الكردي التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي التقدم نحوها والسيطرة عليها، فعندها أصبحت "اعزاز" ساحة الحرب الرئيسية. وهذا التقدم الكردي أثار قلق المسؤولين الأتراك.
2- اذا استطاع الأكراد السيطرة على أعزاز وجرابلس، يصبح كل الشريط الحدودي مع تركيا بيد الأكراد المدعومين من أمريكا وروسيا، ويكون تحت سيطرة وإدارة جماعة البي كا كا كما يدعي الأتراك. وبذلك يكون الحلم التركي بانشاء منطقة عازلة خالية من الأكراد قد ذهب أدراج الرياح.
3- أيضاً اذا استطاع الأكراد السيطرة على أعزاز وجرابلس، ستبدد الأحلام التركية في فصل غربي الفرات عن شرقه، وفي هذه الحالة سوف تكسب القوّات السورية والروسية والكردية منفعة كبيرة، مما سيؤدي الى تهديد المصالح التركية.
4- هذه الأحداث ان وقعت، خلال فترة زمنية قليلة ستتعرض الأراضي التركية الى هجمة لجوء كبيرة، حيث تضم مدينة أعزاز أكثر من 400 ألف سوري، وفي الوضع الراهن تعاني تركيا من وضع اقتصادي وأمني صعب، حيث شهدت تركيا في الأيام الماضية تفجيرات مدوية، ذهب ضحيتها العشرات من الجنود الأتراك.
5- يدعي بعض المسؤولين العسكريين الأتراك أن حزب الاتحاد الديمقراطي السوري يستفيد من السلاح المقدم لها من أمريكا وألمانيا من أجل محاربة تنظيم داعش الإرهابي، وينفّذ هجمات ضد المواقع التركية في الجنوب التركي خصوصاً في مدينة دياربكر وغيرها من المدن التركية.
ما الذي يريده أكراد سوريا؟
في كل الأدبيات الكردية، وخصوصا كرد سوريا، لم نسمع كلمة واحدة حول الاستقلال عن سوريا، وخصوصاً ان الحزب الكردي السوري دائماً ما ينادي بالمواطنية السورية، فعندما تسألهم هل تريدون الانفصال عن سوريا؟ يكون الجواب "قطعاً لا". وعندما تسألهم عن الکيان الإسرائيلي، يكون الجواب نحن من ضمن الشعب السوري والحكومة السورية، والکيان الإسرائيلي عدونا الأول. كل ما في الأمر أن الكرد في سوريا يطالبون بقيام دولة سورية علمانية متعددة القوميات، تحترم فيها جميع الحقوق المدنية.
اذاً وبناءاً على ما تقدم، تشير المعطيات على ما يبدو إلى أن أكراد سوريا لم ولن يوقفوا القتال الى جانب القوات السورية وتحت العلم السوري مهما كان الموقف التركي، ويبدو أن الحزب الديمقراطي الكردي لن يكون له تحركات اتجاه الحدود التركية بل يعتبر تركيا جارة، كغيرها من الدول كالعراق.