الوقت- بعد ساعات قليلة من سيطرة المعارضة المسلحة على دمشق، سارع الجيش الصهيوني إلى استغلال الفراغ الأمني الناجم عن الانتقال المفاجئ للسلطة في سوريا، وبذريعة تأمين حدود الأراضي المحتلة دمرت أجزاء كبيرة من البنية التحتية العسكرية السورية، كما احتلت البلاد حتى أن دبابات الكيان وصلت الآن إلى مسافة 20 كيلومترًا من العاصمة.
إن الصهاينة الذين أثبت تاريخ أدائهم أنهم كلما احتلوا أرضاً لن يخلوها وسيضموها إلى الأراضي المحتلة، كشفوا هذه المرة وسط موجة المعارضة الإقليمية عن خطتهم المشؤومة لبناء المستوطنات والاحتلال الدائم للأراضي السورية واتخاذ خطوة أخرى نحو الرغبة القديمة في وصول من النيل إلى الفرات.
في هذه الأثناء، ورغم أن القوات المسلحة تراقب الأحداث ببرود تام وتتجاهل خسارة جزء من الأراضي السورية، وتعلن عدم نيتها مواجهة الاحتلال الصهيوني، إلا أن التاريخ يثبت أن تاريخ الشعب السوري واعتماد الأمة على المقاومة والعداء للمشروع الاستعماري الصهيوني قديم قدم تاريخ تكوين الدولة اليهودية، وارتباط الأمة السورية بسلسلة خطاب المقاومة ليس خيطاً يمكن أن ينقطع بتغيير الحكومات، فهو مساوم ومعتمد على التيارات الحاكمة هذه الأيام، والتي مثل سحابة عابرة، لا تستطيع أن تحجب شمس الواقع التاريخي لسوريا لفترة طويلة.
إن نظرة إلى 70 عاماً من التاريخ الحافل بالنضال، يعترف فيها الشعب السوري بنفسه باعتباره رائداً للقومية العربية المناصرة لفلسطين ويفتخر بها، وهو نفس العنصر الذي توارثته جيلاً بعد جيل حتى اليوم وسيبقى كذلك، وكان ذلك بمثابة عائق كبير أمام تنفيذ خطط الصهاينة التوسعية.
سوريا في الحرب العربية الإسرائيلية
ورغم أن هذا البلد كان خلال حكم عائلة الأسد في سوريا الذي دام 54 عاما، داعما دائما للقضية الفلسطينية ودافعا عن مصالح الفلسطينيين في المحافل الدولية، إلا أنه قبل وصول هذه العائلة إلى السلطة، لعبت هذه الدولة أيضا دورا مركزيا في الصراع الفلسطيني.
في السنوات الـ 76 الماضية، كانت سوريا دائماً في حالة حرب مع العدو الصهيوني، وعلى عكس بعض المتنازلين العرب الذين أداروا ظهورهم للأمة الفلسطينية وسلكوا طريق تطبيع العلاقات مع هذا الكيان، فإنها لم تتجه أبداً نحو الصداقة مع محتلي القدس، وخلال هذه الفترة كان دائمًا أحد الحلفاء الرئيسيين لفلسطين ضد الصهاينة.
وفي العقود الأولى من الصراع الفلسطيني، تكبدت سوريا، إلى جانب مصر، معظم التكاليف والخسائر في دعم الفلسطينيين، وشاركتا في ثلاثة حروب مع الكيان الصهيوني، وكانت سورية من أوائل الدول التي رفعت، فور قيام الكيان الصهيوني في أيار/مايو 1948، راية القتال ضد هذا الكيان المزيف، وأعلنت مع دول عربية أخرى، بينما كانت تعارض قيام "إسرائيل"، دعمها الكامل له، وحشدت فلسطين قواتها للقتال وأرسلها مع الجيش الإسرائيلي المنشأ حديثا، لكنه لم ينجح في استعادة الأراضي المحتلة.
وفي هذه الحرب دخلت سوريا الأراضي المحتلة بألفي جندي من الجولان وفتحت الجبهة الشمالية الشرقية للحرب ضد "إسرائيل"، كما شاركت سوريا في حرب الأيام الستة عام 1967 في دعم الشعب الفلسطيني حتى يتمكن من النجاح في الحرب الثالثة بين العرب وكيان الاحتلال.
قبل حرب الأيام الستة، كانت سوريا تقوم بتدريب المقاتلين الفلسطينيين، وعندما بدأ الصهاينة في بناء المستوطنات من خلال تدمير منازل الفلسطينيين في مناطق مختلفة، بدؤوا عمليات انتقامية ضد المحتلين.
حتى أن سوريا شكلت "جمهورية عربية" مع مصر من أجل تعزيز التحالف العربي ضد الكيان الصهيوني، وكان عدوان "إسرائيل" على أي من هذه الدول يعتبر اعتداء على الأخرى.
ولعب هذا التحالف دوراً مهماً في دعم فلسطين في حرب الأيام الستة، ونشرت سوريا نحو 75 ألف جندي على حدود الأراضي المحتلة من أجل ضرب العدو المحتل في عمل منسق مع مصر، لكن النتيجة كانت مغايرة لم توقعه التحالف العربي.
ورغم خسارة العرب في هذه الحروب، إلا أن موقف الدول العربية، وخاصة سوريا، أظهر أن الشعوب العربية تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني ولن تتركه وحيدا في مواجهة الصهاينة.
واحتلت "إسرائيل" جزءا كبيرا من مرتفعات الجولان في حرب الأيام الستة عام 1967، وكانت النقطة المهمة في حرب 1967 هي احتلال الجيش الإسرائيلي لمرتفعات الجولان التي لا تزال تحت الاحتلال ويعترف بها المجتمع الدولي كجزء من الأراضي السورية، ورغم أن سوريا حاولت في عام 1973، خلال حرب يوم الغفران، استعادة هضبة الجولان من "إسرائيل"، إلا أن القوات الإسرائيلية قامت بحماية هذه المنطقة رغم الخسائر الفادحة وبصعوبة.
واستمر موقف سوريا المتعنت ضد الكيان الصهيوني في السنوات التالية عندما رفعت مصر والأردن علم التسوية ووقعتا اتفاقيات التطبيع مع "إسرائيل"، وكانت سوريا عائقا جديا أمام تحقيق مشروع إسكات القضية الفلسطينية، القضية التي جعلت سوريا دائماً على رأس مؤامرات أعداء المقاومة. وقال الرئيس السابق لجهاز المخابرات الصهيوني "الموساد" بين عامي 1991 و1995: "إن تنظيم الموساد يقوم بشكل مستمر بتجنيد عملاء وقوات من الجيش والحكومة السورية ويستخدم هويات مزورة لتنفيذ مهامه العديدة في سوريا"، وبالإضافة إلى ذلك، قامت وكالة التجسس الإسرائيلية أيضًا بجمع معلومات حول كيان الدفاع السوري.
وتمكنت سوريا خلال هذه السنوات من اعتقال بعض هؤلاء الجواسيس، ويعتبر إيلي كوهين أشهر هؤلاء الجواسيس، الذي عاد إلى سوريا مطلع الستينيات تحت ستار رجل أعمال أراد العودة إلى وطنه بعد سنوات من العيش في أمريكا الجنوبية، ولعدم تصديقه، تمكن من الوصول إلى مكانة عالية في المستويات الأمنية في سوريا، لكن قوات المخابرات اكتشفت هويته أخيرا وأحبطت أول محاولة جدية لتل أبيب للتسلل إلى عمق سوريا.
بالإضافة إلى ذلك، كان لسوريا في الستينيات والسبعينيات صراعات حدودية محدودة مع الصهاينة بسبب حدودها مع الأراضي المحتلة، وكان زعماء تل أبيب في ذلك الوقت يتهمون دمشق دائمًا بمهاجمة المزارعين الإسرائيليين وعدم السماح للمستوطنين بالانخراط في أعمالهم.
استقبال سوريا للاجئين الفلسطينيين
وبالإضافة إلى المواجهة العسكرية المباشرة مع الكيان الصهيوني دعماً لفلسطين، اتخذت سوريا أيضاً إجراءات إنسانية أخرى لمساعدة الفلسطينيين، وفي عام 1969، افتتحت سوريا سفارة السلطة الفلسطينية في دمشق وبدأت علاقات دبلوماسية مع الجماعات الفلسطينية من أجل إرساء الشرعية الإقليمية للفلسطينيين في مواجهة "إسرائيل"، وبما أن ملايين الفلسطينيين نزحوا من ديارهم نتيجة جرائم الاحتلال، حاولت سوريا في السنوات الأولى توطين بعض هؤلاء اللاجئين على أراضيها من أجل التخفيف من آلامهم ومعاناتهم.
وفي الوقت نفسه، في عام 1957، قامت الحكومة السورية ببناء مخيم استقبال للاجئين الفلسطينيين يسمى "مخيم اليرموك" بالقرب من دمشق، وتم توطين آلاف الفلسطينيين هناك، وسلمت الحكومة السورية السيطرة على هذه المنطقة إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وإلى جانب مخيم اليرموك، هناك عدة مخيمات للاجئين الفلسطينيين، منها حمص، والطبينة، واللاذقية، وجرمانا، والبريج، حيث يقيم مئات الآلاف من الفلسطينيين، لذلك، في العقدين الأولين من تأسيس الكيان الصهيوني، آوت سوريا أكبر عدد من اللاجئين الفلسطينيين بعد الأردن، ولهذا السبب، كانت دائمًا تحظى بشعبية كبيرة بين الفلسطينيين.
إن الغزو واسع النطاق للكيان الصهيوني في سوريا بهدف تدمير القدرات الاستراتيجية والبنية التحتية وإلغاء اتفاقية المنطقة العازلة هو عامل يعزز المشاعر المعادية للصهيونية لدى السوريين والعرب والمسلمين، وسيظل الشعب السوري كذلك، وبمجرد عودة الاستقرار والسلام إلى هذا البلد، ستكون الأولوية للقتال ضد الغزاة.