الوقت - أجرى موقع "الوقت" التحليلي حواراً مع الدكتور فريدون عباسي، الرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية وعضو البرلمان السابق، وقد تمحور الحوار حول محورين رئيسيين يكتسيان أهميةً بالغةً في المشهد النووي الراهن: أولاً: تحليل معمق ودقيق لأبعاد ودلالات الزيارة الأخيرة التي قام بها رافائيل غروسي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى العاصمة الإيرانية طهران، وثانياً: دراسة تحليلية لمضامين وتداعيات إصدار وإقرار القرار الأخير لمجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والموجّه ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الوكالة الدولية أداة لمواجهة القوة الإيرانية الصاعدة
كشف الدكتور فريدون عباسي الدوافع الجلية والخفية وراء إصدار القرار المناهض لإيران، وهي أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد تحولت إلى أداة ضغط محورية في يد القوى الغربية.
وفي هذا السياق، أوضح عباسي: "تلتزم الجمهورية الإسلامية الإيرانية التزاماً صارماً بالبروتوكولات والإجراءات المتفق عليها في إطار مفاوضاتها مع الوكالة الدولية، ونحن اليوم نشهد عالماً يمر بتحولات جيوسياسية عميقة، حيث يخضع هيكل الأمم المتحدة لتغيرات جوهرية منذ أمد بعيد.
ومن الجدير بالذكر أن القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، قد دأبت على تجاهل قرارات الأمم المتحدة طوال العقدين الماضيين، مُقدِمةً على شن عمليات عسكرية ضد دول ذات سيادة وفقاً لأجندتها الخاصة، كما حدث في أفغانستان والعراق، بل إن هذه القوى قد أقرت صراحةً بتبنيها استراتيجية الحروب بالوكالة، متجسدةً في إنشاء تنظيم "داعش"، وذلك بهدف زعزعة استقرار الحكومات المركزية في المنطقة وتقويض أركانها.
ولقد برزت على المسرح الدولي قوى عظمى، كروسيا الاتحادية، لتشكّل عامل إرباكٍ وإقلاقٍ للمنظومة الغربية بأسرها، متمثلةً في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، إذ راودت تلك القوى الغربية أحلام وردية عقب تفكك الاتحاد السوفيتي، متوهمين قدرتهم على تمزيق النسيج الجغرافي والسياسي للأراضي الروسية، وطيّ صفحة وجودها من سجل القوى العالمية، بيد أن موسكو لم تقف مكتوفة الأيدي، بل أطلقت صفارات الإنذار الواحدة تِلو الأخرى، متجليةً في تدخلها العسكري الحاسم في جورجيا، حينما لاحت في الأفق نُذُر ما يُعرف بالثورات المخملية.
أما المشهد الأوكراني، فقد شهد نجاح المخطط الغربي في تنصيب حكومة تدور في فلكه، ما أفرز تداعيات وتحديات جسيمة أثقلت كاهل القيادة الروسية، وبلغ الأمر ذروته حين تجرأ بعض المسؤولين الغربيين على المشاركة علناً في التظاهرات المناوئة لروسيا على الأراضي الأوكرانية، في تحدٍ سافر للأعراف الدبلوماسية.
في نهاية المطاف، وجدت روسيا نفسها مُرغمةً على شنِّ حملةٍ عسكرية على الأراضي الأوكرانية، في مسعى حثيث لصون وحدة أراضيها والذود عن حياض سيادتها الإقليمية، وعلى إثر هذا التحرك الجريء، هبَّت القوى الأوروبية لتسلِّط سيف العقوبات الصارمة على رقبة الاقتصاد الروسي.
غير أن موسكو، وقبل أن تخوض غمار معركتها الأوكرانية، كانت قد نسجت نسيجاً تحالفياً متيناً مع كلٍّ من إيران والعراق وسوريا، بغية استئصال شأفة تنظيم "داعش" واجتثاث جذور الإرهاب من المنطقة، لکن هذه التحركات الروسية الجسورة أفضت إلى تصعيدٍ غير مسبوق في وتيرة العقوبات والضغوط الدولية، لتمتد ظلالها القاتمة ليس فقط على روسيا، بل لتُلقي بثقلها أيضاً على كاهل الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وفي خضم هذه الأحداث، يشهد العالم بزوغ نجم الجمهورية الإسلامية الإيرانية كقوةٍ صاعدة على مسرح السياسة الدولية، مقترنةً بدورٍ متعاظم في صياغة معادلات النظام العالمي الجديد وإعادة هيكلة منظومة الأمم المتحدة، وإزاء هذا الصعود الإيراني، يسعى الغرب حثيثاً إلى تقويض أركان القوة الإيرانية، مستنفراً في سبيل ذلك شتى الأدوات والمنظمات الدولية، وعلى رأسها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، متخذاً منها سلاحاً في معركته الضروس ضد طموحات طهران".
الوكالة الدولية للطاقة الذرية رهينة القوى الغربية الثلاث
في تصريحٍ يكشف النقاب عن خفايا المشهد النووي الدولي، أماط الرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية اللثام عن حقيقة العراقيل والمناورات الغربية، التي تقف حجر عثرة في طريق طيّ صفحة الملف النووي الإيراني، وفي معرض نقده اللاذع للبنية الهيكلية للأمم المتحدة، استعرض كيف دأبت القوى الغربية، على مدار عقدين من الزمن، على إبقاء جذوة هذا الملف متقدةً.
فكلما قدمت طهران براهين قاطعة أو أبدت تعاوناً لا يشوبه غبار مع الوكالة الدولية بغية إغلاق الملف، تنبري الترويكا الأوروبية - متمثلةً في ألمانيا وبريطانيا وفرانسا - لحياكة قرارات مناوئة في أروقة مجلس المحافظين، وعلى الرغم من المساعي الحثيثة التي تبذلها روسيا والصين لتلطيف حدة هذه القرارات صوناً للمصالح الإيرانية، إلا أن تلك القرارات تجد طريقها إلى التنفيذ في نهاية المطاف.
ويعزى هذا المشهد المؤسف إلى أن الهندسة البنيوية للوكالة الدولية ومنظومة الأمم المتحدة، قد نُسجت خيوطها بحيث تظل الدول أسيرةً لإملاءات القوى الغربية الثلاث، ولعل أجلى مظاهر هذا الواقع المرير ما تجلى في التصويت الأخير على القرار المناهض لإيران، حيث لم تجرؤ على معارضته سوى دول تكتل بريكس، بينما انساقت تسع عشرة دولة، للأسف، وراء القرار الذي تقدم به الثالوث الأوروبي المهيمن".
ذرائع الغرب لإحباط رفع العقوبات بعد انتهاء موعد الاتفاق النووي
كشف الخبير المتخصص في الشؤون النووية عن رؤية عميقة، مفادها بأن القرار المطروح لا يتعدى كونه حلقةً في سلسلة متصلة من المناورات السياسية المُحكمة، وأوضح أن هذا التحرك ما هو إلا تمهيد استباقي لما يلوح في الأفق مع حلول شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام المقبل - ذلك الموعد المفصلي الذي يؤذن بانقضاء أجل الاتفاق النووي.
فوفقاً للإطار الزمني المنصوص عليه في الاتفاق، يُفترض أن يشهد ذلك التاريخ المحوري إسدال الستار على حقبة العقوبات المفروضة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، غير أن القوى الغربية، المتشبثة بسياسة الخناق الاقتصادي على طهران، تأبى أن تُرخي قبضتها الحديدية، فتنبري لنسج شبكة معقدة من الذرائع المتنوعة.
فتارةً تتذرع بمزاعم توريد المنظومات الصاروخية إلى روسيا، وطوراً تتحجج بدعاوى دعم المقاومة اللبنانية المتمثلة في حزب الله، ثم تلوذ بحجة مساندة حركة أنصار الله اليمنية - في محاولة مكشوفة لإدامة منظومة العقوبات وإحباط أي مسعى لتحرير الاقتصاد الإيراني من قيودها.
ضرورة التفكير ملياً في الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية
وفي معرض تناوله للتدابير المتوخاة التي أعلنت عنها طهران رداً على القرار السياسي المُسيَّس للترويكا الأوروبية، أدلى العضو السابق في لجنة الأمن القومي الإيراني بتصريحات جوهرية، حيث أوضح:
"أن المنظومة النووية الإيرانية، في صميم فلسفتها وجوهر عقيدتها، تتمحور حول محورين رئيسيين: توليد الطاقة السلمية، وتسخير التقنيات الإشعاعية في خدمة المجال الطبي، وهذه العقيدة الراسخة تمثّل حجر الزاوية في برنامجنا النووي، إذ تستهدف في المقام الأول توظيف التقنيات النووية لخدمة البشرية وتحسين جودة الحياة.
بيد أنه إذا كانت الظروف الدولية الراهنة تستدعي إعادة النظر في عقيدتنا النووية الحالية، فإن الحكمة تقتضي أولاً تهيئة الأطر القانونية والتشريعية اللازمة لمثل هذا التحول الاستراتيجي المفصلي، وأودّ أن أؤكد، أنه بناءً على قراءة متأنية للمشهد الدولي، أنه إذا كان لنا أن نمضي قُدماً نحو تعميق أنشطتنا النووية بصورة أكثر شموليةً وفاعليةً، فإن خيار الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، يجب أن يُطرح على طاولة النقاش الاستراتيجي".