الوقت - في غمرة المعركة التي يخوضها الكيان الصهيوني في غزة ولبنان، برزت فضيحة جديدة داخل الأراضي المحتلة، أثارت هواجس الصهاينة حيال هشاشة أجهزتهم الأمنية.
كشفت وسائل الإعلام العبرية النقاب مؤخراً عن تحقيقات مشتركة، تجريها الأجهزة الأمنية "الشاباك والشرطة وجيش الاحتلال" بشأن تسريب معلومات فائقة السرية من مكتب بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء هذا الكيان، ويُرجَّح أن هذه المعلومات تتمحور حول حركة حماس والحرب على غزة.
استناداً إلى إحدى الوثائق في هذا الملف، والتي حظيت صحيفة "بيلد" الألمانية بالاطلاع عليها، قام يحيى السنوار، القائد السابق لحماس، برسم استراتيجية الحركة فيما يتعلق بمفاوضات تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، وتعتبر الأجهزة الأمنية للكيان هذه المعلومات ذات طابع سري للغاية.
وكشفت إحدى الوثائق المسربة عن استراتيجية محكمة اتبعتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، حيث وظّفت الاحتجاجات المتصاعدة لعائلات الأسرى الصهاينة، كورقة ضغط لإرغام حكومة نتنياهو على الرضوخ لشروط صفقة تبادل الأسرى.
وفي تطور دراماتيكي عقب تسريب هذه الوثائق الحساسة، سارعت الأجهزة الأمنية الصهيونية إلى شنّ حملة اعتقالات طالت عدداً من العاملين في المكتب الخاص لنتنياهو، وفي خطوة غير مسبوقة، أصدر المفوض العام لمصلحة السجون الصهيونية قراراً يوم الجمعة الماضي، يقضي بإنشاء جناح أمني فائق التحصين، مخصص حصراً للمتهمين بالتخابر مع إيران.
وأماطت المصادر الإعلامية الصهيونية اللثام عن أن هذا الجناح الاستثنائي قد صُمم وفق معايير أمنية متطورة تتناسب مع خطورة المحتجزين، ويندرج ضمن استراتيجية شاملة تتبناها مصلحة السجون لمواجهة التحديات الأمنية المستجدة في ظل الظروف الحربية الراهنة.
وفي سياق متصل، كشفت قناة "كان" العبرية أن التحقيقات الجارية تتمحور بشكل رئيسي حول شخصية محورية شغلت منصب المتحدث الرسمي السابق لنتنياهو، وتشير المعطيات إلى أن المشتبه به قد اخترق المنظومة الأمنية بحضوره جلسات بالغة السرية دون حيازته التصاريح الأمنية اللازمة، ليقوم لاحقاً بتسريب معلومات حساسة إلى منابر إعلامية دولية، وعلى رأسها صحيفة "بيلد" الألمانية، غير أن المكتب الإعلامي لنتنياهو، سارع إلى نفي الأنباء المتداولة حول وجود أي من منسوبي مكتبه ضمن قائمة المعتقلين.
وكشفت القناة الثانية عشرة الإسرائيلية عن تفاصيل مثيرة في هذا السياق، حيث أفادت: "إنَّ الشخصية المحورية في هذه القضية، كانت تشغل منصباً رفيعاً كمستشارٍ لنتنياهو على مدار الثمانية عشر شهراً المنصرمة، وقد بلغ من تفانيه في خدمة رئيس الوزراء، حدَّ استعداده للتضحية بحياته من أجله، غير أنَّ انفجار هذه الفضيحة المدوية كشف عن تنصُّل نتنياهو من مستشاره، وادعائه - خلافاً للحقيقة - انتفاء أي علاقة وظيفية بينهما، والواقع يؤكد أن المستشار المذكور لم يكتفِ بالعمل لمصلح نتنياهو فحسب، بل كان حضوره يومياً في مكتبه أمراً معتاداً، مع مشاركته الفاعلة في المداولات الأمنية الحساسة، ومرافقته الدائمة لموكب رئيس الوزراء في تحركاته كافة".
ويأتي الكشف عن هذه المعلومات الخطيرة في وسائل الإعلام الإسرائيلية، عقب قرار قضائي بتخفيف القيود المفروضة على التغطية الإعلامية للقضية، وفي خضم هذه التطورات، برزت مخاوف جدية من أن يؤدي تسريب المعلومات السرية، إلى تقويض الأهداف العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة.
وفي حين لا تزال الملابسات الدقيقة لتسريب المعلومات السرية من أروقة حكومة نتنياهو غير واضحة المعالم، إلا أن هناك عدة سيناريوهات محتملة تستحق التحليل والدراسة، نستعرضها تباعاً فيما يلي.
نفوذ إيران يصل إلى عقر دار نتنياهو
في ضوء استقراء المشهد الاستخباراتي العالمي، يتجلى نمط ثابت في تسريبات الوثائق السرية عبر مختلف الدول، حيث تظهر دائماً بصمات قوى خارجية فاعلة، وهو ما يُرجح احتمالية تكرار هذا النمط في قضية تسريب وثائق حكومة نتنياهو.
وفي ظل التصعيد غير المسبوق في حدة التوتر بين إيران والكيان الصهيوني خلال الآونة الأخيرة، حيث يسعى كلا الطرفين لتوظيف كل أدواتهما الصلبة والناعمة في إطار استراتيجية إلحاق الضرر بالخصم، تتجه أصابع الاتهام الصهيونية صوب طهران، ورغم أن التحقيقات ما زالت جاريةً ولم تؤكد صحة هذه المزاعم بعد، إلا أن السياق العام للتوتر المتصاعد بين الجانبين، يجعل فرضية الضلوع الإيراني في هذا الملف واردةً بقوة.
وقد كشفت التطورات الأخيرة عن إصدار النيابة العامة للكيان الصهيوني لائحة اتهام أمام محكمة تل أبيب ضد المدعو "آشر بنيامين وايس"، أحد رعايا الكيان، بتهمة التخابر مع إيران والتورط في مخطط لاستهداف عالم نووي إسرائيلي بغرض تصفيته، وتضمنت لائحة الاتهام تفاصيل عن تكليفه من قبل الجانب الإيراني، بتنفيذ عمليات متنوعة تمسّ المنظومة الأمنية الإسرائيلية.
إن ثبوت تغلغل النفوذ الإيراني إلى هذا المستوى العميق داخل دوائر نتنياهو، يكشف بجلاء مدى هشاشة المنظومة الأمنية للكيان الصهيوني، في تناقض صارخ مع التصريحات المتعالية لمسؤوليه.
لقد كشف العام المنصرم، في سياق الصراع المحتدم بين "إسرائيل" وإيران وقوى المقاومة، عن هشاشة البنية الأمنية للكيان الصهيوني بصورة جلية، مُعرياً كل نقاط ضعفه الاستراتيجية، فمن الإخفاق الذريع لمنظومتها الاستخباراتية والأمنية في استباق "طوفان الأقصى" وتداعيات السابع من أكتوبر 2023، إلى الاختراقات الأمنية الفادحة المتمثلة في تسريب معلومات بالغة السرية، مروراً بسلسلة الهجمات السيبرانية المتطورة، تبددت الهالة المزعومة حول تفوق الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، على غرار الادعاءات المبالغ فيها بشأن فعالية منظومة "القبة الحديدية".
وفي هذا السياق، يتجلى بوضوح ساطع صدق الرؤية الاستراتيجية للشهيد السيد حسن نصر الله، الأمين العام السابق لحزب الله، في مقولته الخالدة التي طالما رددها: "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت"، فها هي الأحداث تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، صحة هذا التوصيف الدقيق للواقع الإسرائيلي الهش.
وقد شهدت الأشهر الأخيرة حالةً من الهلع المتصاعد في أوساط المواطنين والمسؤولين الصهاينة، جراء عجزهم المتكرر عن التصدي لصواريخ المقاومة، والآن، مع انكشاف مدى هشاشة المنظومة الأمنية في تل أبيب على نحو غير مسبوق، يُتوقع أن تتفاقم حدة المخاوف وتتسع رقعتها بصورة دراماتيكية، ما قد يؤدي إلى تداعيات جيوسياسية بعيدة المدى في المنطقة برمتها.
مساعي المعارضة الداخلية لممارسة الضغط على نتنياهو
يتجلى المشهد الثاني في مسألة تسريب المعلومات السرية في احتمالية ضلوع بعض العناصر الداخلية، التي تستشعر قلقاً بالغاً إزاء استمرار الوضع الراهن، في الكشف عن هذه الوثائق الحساسة.
فعلى مدار العام المنصرم، دأب نتنياهو على تقديم صورة مغايرة تماماً للحقائق المتعلقة بمجريات الحرب في غزة للرأي العام ووسائل الإعلام، وفي حال ثبوت تورط نتنياهو في تغذية المواطنين بمعلومات مضللة خلال هذه الفترة، فإن حدة الضغوط المفروضة على الحكومة لوقف آلة القتل المستعرة في غزة ولبنان، ستشهد تصعيداً غير مسبوق.
وما لا شك فيه أن تسريب المعلومات السرية، في حال تعارضها مع التوجهات المعلنة لنتنياهو وثبوت عدم صحتها، سيؤدي إلى تنامي موجة الضغوط من قِبَل الأحزاب السياسية والشرائح المجتمعية المختلفة ضد الحكومة، ما سيضع نتنياهو في مواجهة معضلة شائكة، وبناءً على ذلك، فليس من المستبعد أن يكون معارضو نهج نتنياهو قد اضطلعوا بدورٍ محوري في تسريب المعلومات السرية، بهدف تضييق الخناق على حكومته.
ومن منظور المعارضة، فإن المعارك الدائرة في غزة ولبنان لم تُسفر عن أي مكاسب ملموسة، بل إن النزعات التوسعية لنتنياهو وحلفائه، قد أفضت إلى فتح جبهات متعددة في مواجهة الأراضي المحتلة، وبدلاً من إرساء دعائم الأمن، فقد أدت إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار وتوسيع نطاقها بصورة غير مسبوقة.
الكشف عن الوثائق السرية بعلم نتنياهو
في تطوّرٍ لافت يُلقي بظلاله على المشهد السياسي الإسرائيلي، تتصاعد التكهنات حول احتمالية ضلوع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في قضية تسريب الوثائق السرية، وفي حين لم تتبلور بعد أدلة قاطعة تؤكد علمه المسبق بهذه التسريبات، إلا أن المعارضة تضعه في قفص الاتهام كمسؤول رئيسي عن هذا الخرق الأمني غير المسبوق.
وفي تصريحات نارية، كشف يائير لابيد، زعيم المعارضة، النقاب عن ما وصفه بـ"مسرحية مفبركة" قائلاً: "تروّج حكومة نتنياهو لرواية مفادها بأن حماس هي المعرقل الوحيد لاتفاقيات التبادل، في حين أن الحكومة تقف موقف المتعاون المرن، بيد أن هذه الرواية لا تعدو كونها نسيجاً من الأوهام، فهم لن يتورعوا عن تزييف الوثائق وتسريب المعلومات السرية، حتى لو كان الثمن تعريض الأمن القومي الإسرائيلي للخطر، طالما أن ذلك يخدم سردياتهم المضللة".
وأردف لابيد في تصريحات تنضح بالخطورة: "نحن أمام حكومة احترفت التزييف، حتى بات من المستحيل تمييز الحقيقة في أي من الملفات الحيوية، سواء الاقتصادية أو الأمنية أو حتى ما يتعلق بمجريات الحرب". وتكتسب هذه التصريحات أهميةً خاصةً في ضوء ما كشفته صحيفة "يديعوت أحرونوت" نقلاً عن مصدر استخباراتي رفيع، عن وجود خلية داخل أروقة الحكومة متخصصة في تزوير الوثائق وبثّ معلومات مضللة، بهدف نسف جهود إتمام صفقة تبادل الأسرى.
وفي موقف لا يقلّ حدةً، وجّه بيني غانتس، رئيس "المعسكر الوطني"، أصابع الاتهام مباشرةً إلى نتنياهو قائلاً: "بعيداً عن التفاصيل الدقيقة للقضية التي تخضع للتحقيق، فإن المسؤولية الكاملة عن كل ما يجري في مكتب رئيس الوزراء - إيجاباً أو سلباً - تقع حصراً على عاتق شاغل هذا المنصب".
وفي خضم الأزمة السياسية المتفاقمة التي تعصف بالكيان الصهيوني، تتكشف أبعاد جديدة ومثيرة للقلق حول استراتيجية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فوفقًا لتحليل متعمق لتصريحات يائير لابيد وما تناقلته وسائل الإعلام العبرية، يتبلور سيناريو خطير: إذا ثبت تورط نتنياهو عن عمد في تسريب معلومات سرية، فإن ذلك يشير إلى محاولة يائسة لتوظيف وثائق مزيفة، بهدف تحميل حركة حماس مسؤولية استمرار الصراع في غزة.
هذه المناورة السياسية الماكرة، إن صحت، تُعدّ محاولةً بائسةً من نتنياهو للتملص من وطأة الضغوط الداخلية والخارجية المتصاعدة، فعلى مدار العام المنصرم، ما فتئ نتنياهو يلصق تهمة إفشال مباحثات وقف إطلاق النار بحركة حماس، مهيئًا بذلك الأرضية لمزيد من سفك الدماء في القطاع المحاصر، واليوم، يبدو أنه يسعى، من خلال هذه الوثائق المشكوك في صحتها، إلى النجاة بنفسه من مأزق سياسي وأخلاقي عميق.
في الوقت ذاته، يتصاعد الغضب في أوساط عائلات الأسرى الصهاينة، الذين باتوا على حافة اليأس من سياسات حكومة نتنياهو وطول أمد انتظار تحرير ذويهم، فهم يرون أن الحكومة تتقاعس عن بذل جهود جادة لاستعادة الأسرى، ما أدى إلى تنامي حركة الاحتجاجات بشكل متسارع، الأمر الذي يثير قلقًا متزايدًا في أروقة السلطة.
وعليه، يبدو أن نتنياهو يسعى جاهدًا لكبح جماح المعارضة الداخلية، من خلال الترويج لرواية مفادها بأن حماس هي العقبة الوحيدة أمام الإفراج عن الأسرى الصهاينة، وأن حكومته المتطرفة قد استنفدت كل السبل لإنقاذهم، وبهذه المناورة، يأمل في تخفيف الضغط الهائل عن كاهله، وحشد التأييد الداخلي لمواصلة مخططاته العدوانية في غزة.
بيد أنه، وبغض النظر عن السيناريو الأقرب للحقيقة من بين هذه الاحتمالات، فإن تداعيات هذا الحدث الخطير باتت حتميةً ولا مفر منها: أولًا، انكشاف هشاشة المنظومة الأمنية والاستخباراتية للكيان الصهيوني وقابليتها للاختراق، وثانيًا، تعميق الشرخ في بنية النظام السياسي الإسرائيلي إلى درجة تتجاوز الخطوط الحمراء للأمن القومي، ما قد يفضي إلى تداعيات وخيمة على مستقبل الكيان برمته.