الوقت - في خضم التحديات الجسيمة التي فرضتها العمليات البحرية لقوات أنصار الله اليمنية، ضد شبكة الملاحة التجارية الإسرائيلية في الممرات الدولية بالمحيط الهندي والبحر الأحمر على مدار الأشهر العشرة المنصرمة، لجأت تل أبيب إلى كل حلفائها سعيًا لإيجاد مسارات بديلة للتبادل التجاري البحري.
وفي هذا السياق، وعقب التقارير المتواترة التي نُشرت في الأشهر الأخيرة حول المساعدات السرية المقدمة من دول عربية كالإمارات والأردن والسعودية للكيان الصهيوني، بغية تجاوز مسار البحر الأحمر عبر الممرات البرية، تسربت مؤخرًا تقارير تكشف عن دور مماثل للقاهرة في هذا الملف المثير للجدل والمناهض للقضية الفلسطينية.
استنادًا إلى تقرير نشرته منصة "عرب بوست" الإعلامية، تُظهر بيانات تعقب السفن في الموانئ الإسرائيلية والمصرية، أن الموانئ البحرية المصرية قد غدت الوجهة الرئيسية للعديد من سفن الشحن، التي تمحورت مهمتها بشكل أساسي حول النقل الدوري للبضائع من وإلى الأراضي المحتلة إبان الحرب على غزة.
وتمخضت نتائج هذا التقرير عن دراسة مستفيضة لحركة ما لا يقل عن 19 سفينة شحن بين الموانئ المصرية والإسرائيلية خلال فترة زمنية محددة، حيث انخرطت هذه السفن في عمليات تبادل تجاري مكثفة بين الطرفين.
وتكررت هذه الدورة من الحركة الملاحية بين موانئ الجانبين خلال فترة جمع البيانات، مع استثناءات محدودة تمثلت في رحلات قصيرة وقليلة إلى موانئ دول ثالثة مثل قبرص.
وتشمل البيانات المرصودة سبعة موانئ، منها ميناءان إسرائيليان (حيفا وأشدود) وخمسة موانئ مصرية (الإسكندرية والعريش وأبو قير والدخيلة ودمياط)، وجميعها تطل على ساحل البحر الأبيض المتوسط، واقتصرت فترة رصد وتتبع نشاط السفن، على الأشهر الثلاثة الميلادية الأخيرة (يونيو ويوليو وحتى الثاني والعشرين من أغسطس 2024).
إن الموقع الاستراتيجي للموانئ المصرية، في ظل تجاورها الجغرافي مع المرافئ الرئيسية للكيان الصهيوني، يكسبها أهميةً بالغةً في منظومة الإمداد والتموين الإسرائيلية إبان فترات النزاع.
ويبرز في هذا السياق ميناء أشدود، الذي لا يفصله عن غزة سوى 29 كيلومتراً، إضافةً إلى ميناء حيفا ذي الأهمية الجيوستراتيجية، وهذا القرب الجغرافي الفريد أفضى إلى خفض جوهري في نفقات الشحن، ما يمنح هذا المسار ميزةً تنافسيةً ملموسةً مقارنةً بالبدائل المتاحة.
وتجدر الإشارة إلى أن الأسطول البحري المعني يتألف من 19 سفينة، موزعةً على النحو التالي: سبع سفن مخصصة لنقل الحاويات، وست لشحن الأسمنت، وخمس للبضائع العامة، فضلاً عن سفينة واحدة مكرسة لنقل المواد السائبة كالحبوب والسكر والفحم، وقد نفّذت هذه السفن عشرات الرحلات بين الموانئ المصرية والإسرائيلية، طوال فترة العدوان على غزة.
ترفع هذه السفن أعلام دول متنوعة، تشمل بنما، وليبيريا، والكيان الصهيوني، ومصر، وأنتيغوا وباربودا، وسنغافورة، وسانت كيتس ونيفيس (الجزيرة الكاريبية)، وهي مسجلة تحت ملكية كيانات تجارية من مصر، والكيان الصهيوني، وتركيا، واليونان، وسنغافورة، وألمانيا، وقبرص، ومن النماذج البارزة في هذا الأسطول، نذكر السفينة “LUCY BORCHARD”، التي سجلت في عام 2023 خمساً وعشرين رحلة إلى موانئ الكيان الصهيوني، وثلاثاً وعشرين إلى الموانئ المصرية، أما في العام السابق، أي 2022، فقد نفذت أربعاً وعشرين رحلة لكل من الوجهتين.
كما يجدر تسليط الضوء على سفينة "بان جي جي"، التي أبحرت في عام 2023 إلى ميناء أشدود ثماني وعشرين مرةً، وإلى ميناء حيفا أربع مرات، وفي عام 2022، قامت بواحد وأربعين رحلة شحن إلى ميناء أشدود.
والجدير بالذكر أيضًا أن هذه السفينة تنتمي إلى مجموعة "بان مارين" المصرية للملاحة، المؤسسة عام 1978، والتي تعدّ من الرواد في مجال النقل البحري في المنطقة.
تنامٍ ملحوظ في حجم التبادل التجاري بين مصر والكيان الإسرائيلي إبان فترة الصراع
يبدو أن تغاضي صناع القرار المصريين عن تبعات الالتفاف على الحصار - بما في ذلك إسهامهم غير المباشر في استمرار الکيان الصهيوني في حربه وممارساته القمعية ضد الشعب الفلسطيني - قد آتى ثماره الاقتصادية للقاهرة، وإن كان ذلك على حساب المبادئ والقيم.
وفقًا لما أفصحت عنه البيانات الرسمية الصادرة عن جهاز الإحصاء المركزي الإسرائيلي، فقد شهدت حركة التجارة بين مصر والأراضي المحتلة ارتفاعًا ملموسًا خلال فترة العدوان على قطاع غزة، مقارنةً بالفترة التي سبقت اندلاع الأعمال العدائية.
حيث تكشف الأرقام أن قيمة الصادرات المصرية إلى الأراضي المحتلة، في الفترة الممتدة من أكتوبر 2023 وحتى 31 يوليو 2024، قد بلغت 170.1 مليون دولار أمريكي، في حين لم تتجاوز هذه القيمة 162.8 مليون دولار خلال الفترة المماثلة من العام السابق (2022-2023).
وفي المقابل، قامت مصر باستيراد سلع من الكيان الإسرائيلي بقيمة إجمالية بلغت 331.6 مليون دولار خلال الفترة المذكورة، وهو ما يمثّل ضعف حجم الواردات خلال الفترة المناظرة من العام الماضي.
وقد بلغ هذا النمو المتسارع ذروته في شهر يوليو 2024، حيث سُجل رقم قياسي غير مسبوق لقيمة الصادرات الإسرائيلية إلى مصر في شهر واحد، بلغت 45.4 مليون دولار.
وما يثير القلق والتساؤلات، أن هذه الزيادة الحادة في حجم التبادل التجاري بين مصر والكيان الصهيوني، تتزامن مع استمرار العدوان الوحشي على قطاع غزة، والحصار الاقتصادي الخانق المفروض على سكانه، وهو العدوان الذي أسفر عن دمار هائل ومجاعة مروعة، مخلفًا وراءه ما يربو على 133 ألف ضحية بين قتيل وجريح، فضلاً عن أكثر من 10 آلاف مفقود.
إن هذا التزامن المريب بين تصاعد وتيرة التبادل التجاري وتفاقم المأساة الإنسانية في غزة، يغذّي التكهنات حول دور القاهرة في تخفيف وطأة الحصار الاقتصادي على الكيان الصهيوني، وذلك في تناقض صارخ مع الخطاب الرسمي المصري المعلن بدعم القضية الفلسطينية.
اللعبة الخفية للإمارات
في غمرة الحديث عن مساعي الموانئ المصرية لتخفيف وطأة الضغوط الاقتصادية على الکيان الإسرائيلي، يبرز دور محوري لا يمكن إغفاله لفاعل إقليمي ذي ثقل وهو دولة الإمارات العربية المتحدة.
لقد شهدت الأشهر العشرة المنصرمة منذ اندلاع النزاع، تحولًا جوهريًا في المشهد الجيوسياسي، حيث ارتقت أبوظبي إلى مكانة الشريك الإقليمي الأبرز للكيان الصهيوني، في إنشاء ما يمكن وصفه بـ"الممر التنفسي البري".
ففي تطور لافت، كشفت القناة 13 الإسرائيلية في شهر فبراير الماضي، عن تدشين محور لوجستي استراتيجي يربط ميناء جبل علي، المركز التجاري العالمي في دبي، بميناء إيلات في الأراضي المحتلة، و هذا المسار الحيوي، الذي يمتدّ عبر أراضي السعودية والأردن، يمثّل بديلًا استراتيجيًا للتجارة البحرية الإسرائيلية في منطقة البحر الأحمر المضطربة.
وفي سياق متصل، أفادت وكالة بلومبرج الاقتصادية العالمية في الثاني من فبراير، عن مبادرة شرکة إسرائيلية تهدف إلى رسم خرائط تجارية جديدة في منطقة الشرق الأوسط، استجابةً للتحديات الأمنية في البحر الأحمر.
وفي هذا الصدد، صرح حنان فريدمان، الرئيس التنفيذي للشركة المعنية، أن عمليات نقل متنوعة تشمل المواد الغذائية والبوليمرات والمواد الكيميائية والسلع الإلكترونية، تجري حاليًا من موانئ الإمارات والبحرين، مرورًا بالأراضي السعودية والأردنية، وصولًا إلى "إسرائيل".
وفي خطوة استثمارية، خصصت الإمارات مؤخرًا حزمةً ماليةً قدرها 10 مليارات دولار للاستثمار المباشر في الأراضي المحتلة، في مسعى لدعم الاقتصاد الإسرائيلي المتعثر.
وفي إطار هذه الشراكة الاستراتيجية، تم إبرام تحالف بين شركة G42 الإماراتية، التي يشرف على إدارتها الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، مستشار الأمن القومي الإماراتي، وبين شركة Rafael Advanced Defense Systems، العملاق الإسرائيلي في مجال الصناعات الدفاعية المتقدمة.
وفي المشهد الراهن المتعلق بمشروع الربط بين الموانئ المصرية والإسرائيلية، تتجلى بوضوح البصمات الاستراتيجية الإماراتية، حيث تبوأت الإمارات في السنوات الأخيرة مكانة المستثمر الأجنبي الرئيسي في القطاع البحري واللوجستي المصري.
وقد كشف تحقيق استقصائي أجراه موقع "المواطن" (muwatin.net)، عن معلومات جوهرية تتوافق مع ما نشره "عربي بوست"، مسلطًا الضوء على شبكة معقدة من العلاقات التجارية والاستراتيجية التي تربط الکيان الإسرائيلي بعدد من الدول العربية.
وتبرز في صلب هذه الشبكة شركة Trucknet الإسرائيلية، المتخذة من ميناء إيلات مقرًا رئيسيًا لها، والممتدة بفروعها إلى تل أبيب وعواصم أوروبية رئيسية كباريس وبوخارست ومدريد.
ووفقًا للتقرير، فقد أبرمت Trucknet تحالفات استراتيجية مع ثلاث شركات في دول عربية مختلفة: PureTrans في الإمارات العربية المتحدة، وCox Logistics في البحرين، وWWCS في مصر، ويضطلع هذا التحالف الثلاثي بمهمة حيوية تتمثل في إدارة عمليات النقل البري للبضائع، ممتدةً من ميناء جبل علي، المركز التجاري العالمي في دبي، وصولًا إلى ميناء سلمان الإسرائيلي.
وفي سياق متصل، شهد شهر أبريل من العام الجاري إعلانًا إماراتيًا عن خطة استثمارية طموحة بقيمة 35 مليار دولار، موجهةً نحو قطاعات متنوعة في الاقتصاد المصري، مع تركيز استراتيجي على قطاعي الموانئ والجزر.
وقد جاء هذا الإعلان عقب تقارير إعلامية مصرية نُشرت في فبراير 2024، كشفت النقاب عن صفقة استراتيجية بقيمة 22 مليار دولار، تمنح الإمارات حقوق تطوير وإدارة منطقة "رأس الحكمة" الاستراتيجية على ساحل البحر المتوسط.
إن هذه التحركات الاستراتيجية المتتالية والمدروسة، تشير بوضوح إلى تنامي النفوذ الإماراتي في دوائر صنع القرار المتعلقة بإدارة وتشغيل المنظومة اللوجستية للموانئ المصرية، وعليه، يمكن الاستنتاج أن الاستثمارات الإماراتية في مصر، تلعب دورًا محوريًا وحاسمًا في تشكيل مسارات الأزمة الجيوسياسية في قطاع غزة.