الوقت- بعد نحو ثلاثة عقود من انتهاء الوجود العسكري للاتحاد السوفييتي في البحر الأحمر، يبدو أن الكرملين يخطط للتأكيد على وجوده في أفريقيا من جديد، وفي هذه الأثناء فإن دور السودان مهم جداً بالنسبة للروس، وفي الأسبوع الماضي، أكد سفير السودان لدى روسيا محمد سراج، أن الخرطوم ملتزمة ببناء قاعدة بحرية مشتركة مع روسيا، وأكد استمرار متابعة إنشاء هذه القاعدة البحرية. وفي عام 2019، وقعت روسيا والسودان اتفاقية لإنشاء مركز دعم لوجستي للبحرية الروسية في بورتسودان، وكان من المفترض أن يستضيف هذا المركز ما يصل إلى 300 جندي روسي ويزود سفن البلاد بالوقود، إلا أن هذا الاتفاق لم يتم الانتهاء منه، وفي الواقع، فإن عودة روسيا إلى القرن الأفريقي مرتبطة بالقيمة الإستراتيجية لوجود هذه الدولة في البحر الأحمر، وفي هذه الأثناء يلعب السودان دورًا رئيسيًا بالنسبة للروس.
ومؤخراً "اللواء ياسر العطا"؛ نائب رئيس أركان الجيش السوداني أعلن عن قرب التوقيع على الاتفاق النهائي لإنشاء القاعدة الروسية في بورتسودان، لكن لم يتضح بعد متى ستدخل هذه القاعدة أخيراً مرحلة العمليات.
10 سنوات من التفاوض
واستمرت المفاوضات بين السودان وروسيا بشأن القاعدة البحرية منذ نحو عقد من الزمن، وفي عام 2015، وقع الجانبان مذكرة تفاهم لإنشاء قاعدة بحرية قبالة سواحل السودان مطلة على البحر الأحمر، وفي عام 2017، تم تأكيد هذا التفاهم، وبعد ذلك بعامين، وقع الجانبان على اتفاقية تعاون أمني وعسكري مدتها 7 سنوات، تليها اتفاقية عسكرية مدتها 25 عامًا في عام 2020، ومطلع العام الماضي زار وفد سوداني برئاسة نائب رئيس مجلس الحكم الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان ومن بعده الفريق حميدتي قائد قوات الدعم السريع موسكو واتفق مع الحكومة الروسية على البدء في إنشاء هذه القاعدة، لكن اندلاع الحرب الأهلية في ربيع العام نفسه أعاق تقدم المفاوضات، لأن البرهان وحميدتي يتقاتلان بشدة ضد بعضهما البعض.
السودان يحتاج إلى روسيا
وحسب "ياسر العطا" فإن الوجود الروسي على سواحل السودان سيقتصر على مركز دعم لوجستي وليس مجرد قاعدة عسكرية، وفي المقابل ستنفذ روسيا أيضًا برامج تعاون مع السودان في المجالات الأمنية والعسكرية والاقتصاد، حيث يحتاج السودان أيضًا إلى روسيا في مجالات مثل الزراعة والتعدين، وقال المسؤولون السودانيون إنهم سيتلقون مساعدة من الروس في هذا المجال أيضًا، كما ستمنح هذه الاتفاقية الجيش الروسي الفرصة لاستخدام موانئ ومطارات السودان لنقل المعدات اللازمة إلى القاعدة المطلوبة.
وفي الوقت نفسه، توقعت وسائل الإعلام العالمية أنه نظرا لحاجة مجلس الحكم السوداني للتعامل مع قوات الرد السريع واستمرار الحرب الأهلية، فإن السودانيين بحاجة كبيرة للأسلحة والذخائر وقطع الغيار العسكرية للطائرات الحربية والطائرات دون طيار، وليس من المستبعد أن تعطي روسيا هذه المعدات للجيش السوداني.
لماذا تفضل روسيا السودان؟
وفي الوقت نفسه، فإن السودان المنخرط في الحرب الأهلية ليس الدولة الساحلية الوحيدة في أفريقيا، ويمكن أن تكون سواحل الصومال أو أريتريا، أمام مضيق باب المندب، موقعا أكثر جاذبية لروسيا للوجود فيها "القرن الأفريقي، والبحر الأحمر، والمحيط الهندي" لكن السودان لا يزال خيارًا مهمًا لروسيا أن تكون حاضرة في القرن الأفريقي.
وفي الوقت نفسه، تؤكد وسائل إعلام غربية أن روسيا، بالتوازي مع مفاوضاتها مع السودان، أجرت اتصالات مع إريتريا لإنشاء قاعدة في هذا البلد، لكن ليس من الواضح ما إذا كانت قاعدة الميناء السوداني بديلاً لإريتريا أم إن موسكو سعت إلى إنشاء قاعدة منفصلة وفي الوقت نفسه، الأمر المؤكد هو أن المفاوضات مع إريتريا لم تكن مثمرة.
بنود الاتفاق: ينص الاتفاق الأولي بين السودان وروسيا على أن تستضيف قاعدة ميناء السودان ثلاثمئة موظف عسكري ومدني أثناء تشغيلها، وهو ما تم تحديده في هذا العقد الذي تبلغ مدته 25 عاماً قابلة للتمديد لعشر سنوات أخرى، ويمكن لمرسى القاعدة أن يستضيف في الوقت نفسه 4 سفن أو غواصات، بما في ذلك الغواصات النووية.
الأهمية السياسية: من الناحية الجغرافية فإن هذه القاعدة تسهل وجود روسيا في منطقة استراتيجية ذات أهمية كبيرة، ويمكن فهم موقع هذه القاعدة بشكل أفضل بالنسبة للروس عندما نأخذ في الاعتبار وجود 12 قاعدة غربية وقواعد أخرى في جيبوتي، أمام مضيق باب المندب، كما أن قرب هذه القاعدة من مضيق باب المندب يعني وجود روسيا بجوار أحد أهم المضائق التي يمر عبرها 12% من التجارة العالمية، كما يمكن روسيا من نقل جزء مهم من التجارة الدولية عبر البحر الأحمر، وهي واحدة من المضائق السبعة المهمة في الأعمال التجارية العالمية.
الأهمية الجغرافية: كما توفر القاعدة البحرية الروسية المقترحة في السودان لموسكو مساحة مفتوحة كافية في بحر العرب والمحيط الهندي وآسيا وكامل الساحل الشرقي للقارة الأفريقية، وتعد مركز إمداد وصيانة ودعم مهم للقوات البحرية الروسية، وستتكامل مع وحدات عسكرية وستساهم في مناورات أو مهمات في المحيط الهندي، وستكون قاعدة الساحلية بالسودان بمثابة نقطة توقف ونقطة تزود بالوقود لطائرات الشحن العسكرية الروسية المتجهة إلى إفريقيا، نظرًا لموقعها في منتصف الطريق نسبيًا بين قاعدتي حميميم وطرطوس في سوريا وبين المناطق الخاضعة للنفوذ الروسي على الساحل الإفريقي.
فاغنر المفقودة: لم تتمكن روسيا حتى الآن من الحصول على موطئ قدم في الدول الساحلية الأفريقية في غرب القارة، وفي السابق، كانت روسيا تعتمد بشكل مطلق على مجموعة فاغنر في العمليات في أفريقيا، ورغم الإنجازات الإستراتيجية، ضاعت إنجازات فاغنر على المدى الطويل، لأن فاغنر لم تكن مجموعة معروفة فحسب، ولكن بعد الانقلاب الفاشل لهذه المجموعة في روسيا، لم يعد لزعيم فاغنر مكان في الكرملين، ورغم أن روسيا تمكنت من تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية وإعلامية في أفريقيا من خلال فاغنر في فترة زمنية قصيرة، إلا أن الاتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد فاغنر، جعلت الروس يطردون فاغنر عمليا من أفريقيا.
الوضع الحالي لروسيا في أفريقيا
ويبدو أن روسيا حققت حتى الآن جزءا من أهدافها الأولية بالعودة إلى أفريقيا ومواجهة القوى العالمية، بما في ذلك فرنسا والولايات المتحدة، المتواجدتين تقليديا في أفريقيا، وكشف الانقلاب العسكري في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وما تلاه من إلغاء اتفاقيات التعاون بين هذه الدول وباريس وواشنطن، عن مدى فعالية الاستراتيجية الروسية، ويعد هذا النهج مزيجا من الدعاية الإعلامية المكثفة ضد الغرب في أفريقيا إلى جانب الشعارات الواعدة والمنقذة والتحرر من الإرث الاستعماري، وقد أثبت هذا النهج فعاليته حتى الآن.
من ناحية أخرى، وبالتوازي مع تقدم المفاوضات الروسية بشأن قاعدة الموانئ السودانية، تواصل روسيا تعزيز وجودها في غرب ووسط هذه القارة من خلال اتفاقيات التعاون الأمني والعسكري مع الدول المناهضة للغرب في أفريقيا مع جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي ثم بوركينا فاسو وأخيراً النيجر، وكانت هذه الاتفاقيات مشروطة بإلغاء اتفاقيات التعاون بين الدول الإفريقية في مجال الدفاع والأمن مع الدول الغربية، وخاصة فرنسا، وفعلت أربع دول على الأقل في وسط أفريقيا، وهي مالي وبوركينا فاسو ثم النيجر، الشيء نفسه وألغت الاتفاقيات الموقعة مع فرنسا.
وفي الوقت نفسه، يظل الوجود العسكري الروسي في أفريقيا محدودا، وأحد الأسباب هو عدم قدرة موسكو على الحصول على موطئ قدم على الساحل الغربي للقارة، ما يعني عدم القدرة على نقل وإرسال المعدات إلى هذه المناطق، وتشير تقارير صحفية إلى أن حكومة جمهورية أفريقيا الوسطى رشحت موقعا في منطقة برينجو، على بعد ثمانين كيلومترا من العاصمة بانغي، لاستضافة قاعدة عسكرية روسية ستكون الأولى في أفريقيا وتستضيف عشرة آلاف جندي، ويسمح الموقع الجغرافي لجمهورية أفريقيا الوسطى للقوات الروسية بمراقبة الوضع في جميع أنحاء القارة من مسافات متساوية تقريبا، ما يمكنها من التدخل بسرعة أكبر في الأحداث في المنطقة إذا لزم الأمر.
كما أن قاعدة ميناء السودان إذا دخلت مرحلة التنفيذ ستكون نقطة دعم مهمة للروس، لأنه من خلال هذه القاعدة تستطيع روسيا إرسال حمولة السفن الراسية في السودان خلال ساعات قليلة جواً إلى شرق القارة ومنطقة المحيط الهندي إلى بانجي في أقصر وقت، كما أن قاعدة ميناء السودان، بالإضافة إلى دورها العملياتي في القارة، تمكن روسيا من أن يكون لها موقع مهم في السودان، لأن السودان بلد غني بالثروات المعدنية والموارد المائية والأراضي الزراعية، وهو ما يعتبر فرصة اقتصادية جيدة للروس.
وفي الوقت نفسه، تتواجد روسيا في السودان منذ سنوات عديدة، وحصلت الشركات الروسية منذ عام 2018 على تراخيص لتشغيل بعض مناجم الذهب في السودان، وحاليا، تتواصل جهود موسكو في كل أنحاء أفريقيا لتعزيز حضورها وزيادة نفوذها إلى مستويات تاريخية.