الوقت- في سياق الصراعات الجيوسياسية، ومن أجل تحقيق أهدافها ومصالحها، تنتهك الحكومات أحيانًا المعاهدات البيئية ومعاهدات حقوق الإنسان وتستخدم الأسلحة التي تلحق أضرارًا جسيمة بالموارد البيئية بالإضافة إلى السكان المدنيين، ومن أهم الأسلحة من هذا النوع والتي تم استخدامها مرات عديدة في السنوات الأخيرة، وخاصة في صراعات منطقة غرب آسيا، وأثارت مخاوف إقليمية بشأن الآثار البيئية لزيادة استخدام هذا السلاح في المستقبل، هي القنابل الفوسفورية، وفي بداية القرن الحادي والعشرين، وقعت عدة حروب كبرى في منطقة غرب آسيا، استخدمت في معظمها القنابل الفوسفورية في المناطق الحضرية وضد المدنيين، ولحقت أضرار بالغة ببيئة المناطق التي تعرضت للهجوم.
حرب التحالف بقيادة الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان في عامي 2001 و2003، وحرب لبنان التي استمرت 33 يومًا في عام 2006، والحرب بين غزة و"إسرائيل" في عام 2008، والحرب بين اليمن والتحالف الذي تقوده السعودية في عامي 2009 و2015، القنبلة الفوسفورية خلال الحرب السورية والاتهامات الثنائية باستخدام هذا السلاح من قبل جمهورية أذربيجان وأرمينيا خلال حرب كاراباخ عام 2020.
في هذه الأثناء، بعد الولايات المتحدة، استخدم الكيان الصهيوني القنابل الفوسفورية أكثر من غيرها في الصراعات الخارجية مع جماعات المقاومة في فلسطين ولبنان، وفي حرب غزة الأخيرة، استخدم الصهاينة مراراً وتكراراً هذا السلاح المحظور لاستهداف المدنيين في قصفه للمدن، كما تشير تقارير إعلامية في الأيام الأخيرة من ساحة المعركة في شمال الأراضي المحتلة بين الجيش الصهيوني وحزب الله اللبناني إلى أن تل أبيب استخدمت مرة أخرى القنابل الفوسفورية في المناطق الحدودية داخل الأراضي اللبنانية.
مخاطر القنبلة الفوسفورية على الإنسان والحيوان والطبيعة
للفوسفور الأبيض تأثير حارق وكيميائي كبير يمكن أن يحرق الناس بشدة ويشعل النار في الماشية والمباني والحدائق والحقول وغيرها من الممتلكات المدنية القريبة، كما أن للفوسفور الأبيض، بعد التأثيرات المباشرة، آثار مدمرة على البيئة والنباتات، وقد يبقى في التربة لعدة سنوات دون أي تغيير، ما يجعل من المستحيل عودة المدنيين إلى ظروفهم المعيشية قبل الحرب، وتظهر نتائج الأبحاث السابقة أن الأشجار والأراضي الملوثة بالفوسفور الأبيض، وخاصة في المناطق الشرقية من قطاع غزة، مثل محيط جبل الأرز، مصفرة بشكل ملحوظ، وتعاني من الطفرات الوراثية، وتآكل التربة، وانخفاض الإنتاجية، وقلة نمو النباتات وحتى العديد من المناطق الزراعية التي ضربتها الأسلحة الإسرائيلية أصبحت الآن قاحلة.
وفي هذا الصدد، أكدت وزارة الزراعة في غزة مراراً أنها نصحت المزارعين ومربي الماشية بتجنب زراعة المحاصيل الزراعية أو رعي الحيوانات في الأراضي التي قصفت بالقنابل الفوسفورية، وقد دفع هذا الوضع المسؤولين الفلسطينيين والمراسلين الدوليين وسكان غزة إلى الاستنتاج بأن "إسرائيل" استخدمت بشكل مستمر ومتعمد الأسلحة التي تحتوي على مواد سامة ومسرطنة ومشعة، ما يؤثر بشكل مباشر على البيئة وإمكانية العيش في المناطق المتضررة، حيث إن الرصاص يجعلها خطرة على الإنسان والحيوان.
وأظهر تحليل عينات التربة من عام 2005 والعينات المأخوذة بعد الحرب اختلافات كبيرة، حسب الدكتور بيرش ماندوكا، عالم الوراثة في جامعة جنوة والباحث ضمن الفريق الإيطالي الذي أعد تقريرا حول الأمر، حسب ميدل إيست مونيتور، يوضح تركيز المعادن الثقيلة، ويأتي التقرير من تحليل عينات مأخوذة من الحفرتين اللتين خلفتهما القنابل الإسرائيلية في بيت حانون، ومخيم جباليا للنازحين داخليا في يوليو/تموز 2006، وحالتين أخريين من بساتين التفاح التي تضررت في حرب عام 2013، ويثبت التقرير أن الفوسفور الأبيض كان السبب الرئيسي في حدوث أزمة لأراضي القطاع الزراعي في غزة.
ووجد الفريق أيضًا تركيزات من معدن الموليبدينوم شديد السمية تصل إلى 25 أي 3000 ضعف المستوى الطبيعي في التربة، يعتبر الموليبدينوم، الذي نادرا ما يتواجد في التربة، خطيرا جدا على الحيوانات المنوية لدى الرجال ويسبب تشوهات خلقية وإجهاضا وزيادة مخاطر الخصوبة، وفي الوقت نفسه، رغم أن الأسلحة الحارقة ليست محظورة صراحة في قوانين الحرب الإنسانية الدولية، فإن القانون الإنساني العرفي يتطلب من الدول اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لمنع إلحاق الضرر بالمدنيين والحيوانات والبيئة، بالإضافة إلى ذلك، تخضع الأسلحة الحارقة للرقابة بموجب البروتوكول الثالث لاتفاقية الأسلحة التقليدية (CCW) لعام 1983، ويحظر البروتوكول الثالث استخدام الأسلحة الحارقة ضد "المدنيين"، وانضمت فلسطين ولبنان إلى البروتوكول الثالث، في حين رفض الكيان الصهيوني قبول هذا البروتوكول مثل القوانين الدولية الأخرى المتعلقة باستخدام الأسلحة الكيميائية والنووية المحظورة.
ما هي سياسة "إسرائيل" وممارساتها السابقة فيما يتعلق بالفوسفور الأبيض؟
للكيان الصهيوني تاريخ طويل في استخدام الفوسفور الأبيض ضد المدنيين، فقط خلال ما تسمى عملية "الرصاص المصهور"، في الفترة من 27 ديسمبر/كانون الأول 2008 إلى 18 يناير/كانون الثاني 2009، استخدم جيش الاحتلال الأسلحة الفوسفورية 200 مرة على الأقل ضد المناطق المأهولة بالسكان في غزة، مثل المدارس والأسواق ومستودعات المساعدات الإنسانية، ومنشآت غزة، والمستشفيات، وبينما ادعى الصهاينة أن هذه الرصاصات لم تستخدم إلا لتكوين هالات دخان كثيفة، أفادت منظمات الرصد الدولية مثل هيومن رايتس ووتش بأن مئات المدنيين قتلوا وأصيبوا نتيجة تعرضهم لقصف هذه الأسلحة.
كما أثار تكرار استخدام هذا السلاح في حرب 2014 غضبا دوليا، حتى أن الصهاينة ومن أجل الحفاظ على سمعتهم وتقليل الضغوط الخارجية، شكلوا محكمة مظاهرة لمنع هجمات الجيش على المناطق المأهولة بالسكان في غزة بالقنابل الفوسفورية، التي لم يكن هذا السلاح قط عاملا محدودا، ولم يستخدم الجيش الصهيوني هذا السلاح، كما حدث في المئة يوم التي مرت منذ بداية الهجمات الجوية والبرية التي شنها الكيان الصهيوني على غزة، واستخدام تل أبيب للأسلحة الفوسفورية في غزة وحتى لبنان يسجل رقماً قياسياً دولياً.
الفوسفور الأبيض كأداة سياسية للإبادة الجماعية والتهجير القسري في لبنان وغزة
إذا تجاهلنا الخسائر الأولية للقنابل الفوسفورية في ساحة المعركة، والتي يمكن أن تقتل وتجرح بشكل أعمى عددًا كبيرًا من المدنيين في منطقة واسعة، فإن الآثار طويلة المدى لهذا السلاح على البيئة والزراعة وسبل العيش وصحة الأجيال القادمة من المدنيين كل ما يثبت ذلك هو أن الهدف الرئيسي للكيان الصهيوني هو الإبادة الجماعية والهجرة القسرية.
والآن، بالإضافة إلى غزة، يخوض الصهاينة حرباً وأزمة أمنية مع لبنان على الجبهة الشمالية، الأمر الذي أدى إلى إخلاء العديد من المستوطنات الصهيونية حول غزة والحدود اللبنانية، لقد خلق تهجير هؤلاء السكان مشاكل كبيرة للحكومة الصهيونية، ومن ناحية أخرى، لم يتم قبول وعود الحكومة بشأن سيطرة الجيش على الوضع في هذه المناطق وضمان الأمن المستقر للمستوطنات، ونتيجة لذلك، فإن قصف الفوسفور حول حدود الأراضي المحتلة مع غزة ولبنان يمكن أن يتم بهدف إنشاء منطقة عازلة غير صالحة للسكن.
ومن ناحية أخرى، أعلنت الحكومة الصهيونية مراراً وتكراراً أنها تبحث عن طريقة للتحرك "الاختياري" لنقل بعض المواطنين الفلسطينيين في غزة البالغ عددهم مليوني مواطن، وما لا شك فيه أن أحد أهم سبل اتباع هذا السيناريو هو تدمير مراعي الناس وأراضيهم الزراعية، ما يعرض سبل عيشهم ومصدر دخلهم للخطر في فترة ما بعد الحرب، ونتيجة لذلك، يصعب العيش في غزة.