الوقت– على الرغم من رغبة عدد من الدول الأوروبية في تقديم الدعم الكامل للكيان الصهيوني في حرب غزة، إلا أن أعضاء الاتحاد الأوروبي ما زالوا ليس لديهم موقف موحد تجاه هذه الأزمة. ويتجلى ذلك بوضوح في الاختلاف في الرأي بين دول مثل ألمانيا، التي تظهر إصرارا كبيرا في دعم الصهاينة، ودول أخرى، بما في ذلك إسبانيا والنرويج، اللتين تنتقدان بشدة الاحتلال وحكومة رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو.
ولقد أعلن رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، الأحد (28 آب/أغسطس)، قرار حكومته الاعتراف بـ"الدولة الفلسطينية"، ودعا الكيان الإسرائيلي إلى وقف القتل العشوائي للفلسطينيين في غزة، كما قدم البرلمان النرويجي اقتراحا للحكومة يوم الخميس الماضي وطلب منها الاستعداد للاعتراف بدولة فلسطين المستقلة، وهو ما سيكون له، وفقا للبرلمان، "أثر إيجابي على عملية السلام" في الشرق الأوسط، وقبل ذلك، كانت دول أيسلندا والسويد وبولندا وجمهورية التشيك ورومانيا قد اعترفت أيضًا بدولة فلسطين.
الفجوة بين الشعوب والحكومات الغربية
بالنسبة للأوروبيين فإن الحرب بين الكيان الصهيوني وحماس أشبه بحقل ألغام أدى إلى خلق فجوة واسعة بين أولئك الذين يتولون السلطة وأولئك الذين يصوتون لهم، ويمكن ملاحظة تغير مواقف الدول الأوروبية الداعمة لفلسطين في التطورات السياسية والاجتماعية التي تشهدها هذه الدول، إن التطورات التي يلعب فيها الشعب دوره المركزي تعرضت لانتقادات بسبب صمتها في مواجهة الجرائم الواسعة التي يرتكبها الصهاينة في غزة.
وفي الشهرين الأخيرين من حرب غزة، قصف الصهاينة هذا القطاع من البر والجو والبحر المحاصر وقتلوا أكثر من 20 ألفاً من الأبرياء، وخاصة الأطفال، ودمروا بنيته التحتية الصحية وفرضوا حصارا شاملا على المدنيين، إن الرأي العام الغربي غاضب للغاية بشأن هذه القضية، وكل يوم تقام احتجاجات واسعة النطاق في أوروبا وأمريكا ضد جرائم المحتلين، وقد أدت هذه القضية إلى تفاقم الفجوة بين الشعوب والحكومات.
وكان لهذه الاحتجاجات آثار سياسية كبيرة، واضطر القادة الأوروبيون الآن إلى تغيير لهجتهم إلى حد ما فيما يتعلق بالتطورات في غزة، مثلما رأينا ضغوط الرأي العام في إقالة وزير الداخلية البريطاني الذي أيد علناً جرائم الكيان الصهيوني.
إن الموجة التي بدأت الآن في الغرب لدعم فلسطين سوف تستمر في زيادة الصعوبات التي تواجهها الحكومات الأوروبية، لأن الرأي العام الأوروبي يكره الحكومات التي تتبع سياسات الولايات المتحدة والقوى الأخرى مثل فرنسا وألمانيا، وهذا أمر مقلق للأحزاب الحاكمة، لأنه في المستقبل في الانتخابات البرلمانية، يجب أن يستمروا في السلطة بأصوات نفس الأشخاص، وبسبب الثغرات التي ظهرت، يشكك الخبراء في فوز القادة الحاليين في الانتخابات المقبلة.
إن حكومات ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، تماشياً مع السياسات الأمريكية، تبرر أي جريمة في غزة باسم الدفاع المشروع عن الأمن الصهيوني، لإظهار أن عليها دعم الطفل غير الشرعي الذي أنجبته قبل 75 عاماً، والحكومة الألمانية، التي قتلت اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، والتي ادعى الصهاينة مسؤوليتها عنها، تحاول الآن كسب شعبية بين الصهاينة من خلال دعم الإبادة الجماعية في غزة وتطهير أيديها الدموية في أحداث "المحرقة" الكاذبة.
لقد اعتاد الأوروبيون أن يلعبوا دوراً نشطاً في التطورات الإقليمية والدولية وحاولوا تخفيف التوترات في جميع أنحاء العالم من خلال الوساطة، ولكن مع التغيرات والتطورات التي حدثت على الساحة الدولية، أصبحت أوروبا الآن عملياً لاعباً من الدرجة الثانية، وقد اتخذت القوى الناشئة مثل الصين وغيرها من الجهات الفاعلة الإقليمية زمام المبادرة، الآن أوروبا ليست في الأساس سوى عبدة تستمع للأوامر التي تمليها أمريكا.
منذ بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، حاول الغرب الحصول على دعم الدول غير الغربية من خلال تقديمه على أنه أكثر من مجرد حرب أوروبية، وأعلنوا أن الصراع في أوكرانيا ينتهك القانون الدولي، ودعوا إلى تعزيز التعاون الدولي بين الأطراف البعيدة عن الصراع لدعم سيادة القانون والوقوف إلى جانب أوكرانيا.
لقد وصفوا الهجمات الروسية بأنها غير قانونية، وهو ما يجب على العالم أن يقف ضده، لكنهم الآن يدافعون عن المجرم بدلاً من الضحية في حرب غزة والإبادة الجماعية الفلسطينية، ولذلك فإن هذه الدول التي تدعي الدفاع عن الديمقراطية في العالم قد عرضت مكانتها في الساحة الدولية للخطر من خلال دعمها القوي للإبادة الجماعية في غزة. لأن الرأي العام لم يعد يستمع إلى شعارات حقوق الإنسان الغربية الوهمية، وذلك لأنه أدرك تناقض هذه الشعارات في مواجهة الأزمات العالمية.
إن الخطورة على الدول الغربية تكمن في أن هذا الأسلوب في التصرف ينسجم تماما مع ما تروج له روسيا والصين، وهو أن الكيان العالمي هو فقط لمصلحة مجموعة صغيرة من الدول، ولا يشمل باقي دول العالم، وأمريكا وحلفاؤها هم وحدهم من يقررون هذه التصرفات، ولكن قد عفا عليها الزمن الآن، وحتى الحكومات الضعيفة لا تتبع السياسات التي يمليها الغرب كما كان في الماضي.
غزة والمزيد من الانقسامات في الناتو
على الرغم من أن حلف شمال الأطلسي كان أكبر تحالف عسكري في العالم منذ إنشائه في عام 1949، وانضمت إليه دول جديدة لتعزيز قوتها والتحرك ضد أعداء موحدين، فقد ظهرت في السنوات الأخيرة دلائل تشير إلى حدوث انقسام في هذا الحلف، ورغم أنه في حالة الأزمة الأوكرانية والتعامل مع التهديدات الروسية، كان لأعضاء الناتو الموقف نفسه إلى حد كبير وقدموا دعمًا عسكريًا وماليًا واسع النطاق لكييف، لكن بعض الدول مثل المجر وتركيا عارضت بشدة سياسات الناتو العقابية ضد روسيا، والتي أظهرت أن الناتو لا يبدو موحدًا ومتماسكًا كما كان من قبل.
وحتى اليوم، في حرب غزة، تظهر هذه الانقسامات نفسها، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تحاول إجبار جميع حلفائها على دعم الكيان الصهيوني، فإن موقف حكومتي إسبانيا والنرويج في الدفاع عن الأمة الفلسطينية واتخاذ قرار بالإجماع إن التحرك للاعتراف بالدولة الفلسطينية هو نوع من الإهانة لقادة الناتو لأنهم غير مستعدين للوقوف إلى جانب الغزاة وهذا الإجراء غير المسبوق سيعمق الانقسام في حلف الناتو.
من المرجح أن يكون للاختلاف في رأي الدول الغربية بشأن حرب غزة تأثير على الساحة الأوكرانية، وربما ينخفض أيضاً مستوى الدعم الحكومي لكييف، وكما حدث في الشهرين الماضيين، انتقدت السلطات الأوكرانية خفض الدعم الأمريكي والأوروبي، وبالنظر إلى موجة المعارضة الشعبية في الغرب دعما لفلسطين، فإن الاعتراف بالدولة الفلسطينية في دول أوروبية أخرى ليس مستبعدا في المستقبل، ويمكن لمبادرة إسبانيا والنرويج أن تمهد الطريق للاعتراف بالدولة الفلسطينية.